[الحطيئة ... أعذب الشعر أكذبه]
ـ[محمد سعد]ــــــــ[18 - 07 - 2007, 10:06 ص]ـ
الحطيئة
جرول بن أوس العبسي، الشاعر المخضرم، في تاريخ الأدب العربي صورة هزلية شائهة، لا لشخصه فقط، بل لشعره أيضاً، الذي انزوى في إطار تلك الصورة فلا يكاد يذكر اسم الحطيئة إلا وتقفز إلى الذهن كل معالم الشخصية الانفعالية الحانقة المتبرمة بالناس والحياة والنفس أيضاً .. وهو وإن كانت تلك الصفات أبرز معالم شخصيته التي طغت على شعره، فصبغته بصبغة النقمة والتسخط على كل شيء ومن كل شيء! إلا أن تلك الصبغة القاتمة، لم تستحوذ على صورته الشعرية بأكملها، فلقد بقيت في الصورة مساحة تتألق بألوان زاهية تكاد تقلب موازين المعادلة لصالح الجمال والحق والخير.
وبعيداً عن تلك الصورة التقليدية القاتمة التي اقترنت بذكره، فإن إفادة الحطيئة من آل أبي سلمى، زهير، ثم ابنه كعب بن زهير من بعده، حيث كان الحطيئة راوية شعر زهير، تلك الإفادة هي التي جعلت للحطيئة عناية فائقة بشعره، أحلته مكانة متقدمة بين شعراء الصنعة المجوّدين، المعروفين بعبيد الشعر، تلك المدرسة التي أسسها زهير وكان الحطيئة أحد أبرز شعرائها، لذلك كان ذا دراية فائقة بمقاييس الجودة ومقوماتها، فهو القائل:
الشعر صعب وطويل سلمه =إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلت به إلى الحضيض قدمه =يريد أن يعربه فيعجمه
وكان الحطيئة يقول:
خير الشعر الحولي المنقح المحكك.
وبهذه المعرفة كان الحطيئة أهلاً لأن يتبوأ موضع المرجعية والتحكيم في قضايا الشعر والشعراء .. فقد سأله هو وحسان بن ثابت، أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ الرأي في قضية هجاء الشاعر النجاشي الحارثي لبني العجلان، عندما استعدوا عليه أمير المؤمنين.
وكثيراً ما يسأل الحطيئة عن أشعر الناس! فقد سئل عن أستاذه زهير، فقال: «ما رأيت مثله في تكفيه على أكتاف القوافي وأخذه بأعنتها حيث شاء من اختلاف معانيها، امتداحاً وذماً. قيل: ثم من؟ قال: ما أدري، إلا أن تراني مسلنطحاً، واضعاً إحدى رجليّ على الأخرى، رافعاً عقيرتي، أعوي في إثر القوافي!!».
أما الشعراء والنقاد، فقد شهدوا للحطيئة بجودة الشعر وأستاذيته فيه، فهذا كعب بن زهير، وقد سأله الحطيئة أن يذكره في شعره، يقول:
فمن للقوافي شأنها من يحوكها =إذا ما مضى كعب وفوّز جرول
كفيتك لا تلقى من الناس واحداً =ينتخل منها مثل ما ينتخل
يثقفها حتى تلين كعوبها =فيقصر عنها من يسيء ويعمل
وقال الفرزدق، مفتخراً بشعره، وعادّاً الحطيئة من أساتذته:
وهب القصائد لي النوابغ إذ مضوا = وأبو يزيد وذو القروح وجرول
أما النقاد فهم مقرون بجودة شعر الحطيئة، وتفوقه على أقرانه من الشعراء، فهذا الأصمعي يقول: (لولا ما وصم به الحطيئة، وعدّد مساوئه الخلقية، لكان بإجادته في كل ضروب الشعر .. شاعر المخضرمين ويضيف أيضاً: ما تشاء أن تقول في شعر شاعر من عيب وجدته وقلّما تجد ذلك في شعره).
ويلتقي الحطيئة بابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فيسأله من أشعر الناس؟ فيذكر أبا دؤاد الأيادي، وزهير بن أبي سلمى، ثم النابغة، ويقول عنه: لكن الضراعة أفسدته كما أفسدت جرولاً، ولولا الجشع لكنت أشعر الماضين، وأما الباقون، فلاشك أني أشعرهم، قال ابن عباس: (أنت كذلك ياأبا مليكة!).
أما شعره الذي هو من أعذب الشعر، فمنه قصيدته الرائعة التي يروي بها قصة كريم، التي استحق بها أن يكون رائد «القصة الشعرية» غير منازع ولا مسبوق. فقد جاءت القصيدة غاية في إتقان فن القصة على غير مثال سابق، فقد انتهج فيها النهج الحديث في تقنية القصة، حيث بدأها بالإضاءة المسبقة للحدث، بوصفه المؤثر لبيئة الحدث وشخوص القصة، ثم الحبكة القصصية بتفاعلاتها المتدرجة حتى يصل بها إلى الأزمة أو العقدة القصصية، ثم الحل الذي تنفرج معه الأزمة بصورة مؤثرة وسارة. حيث بدأها بتصوير بيئة الحدث وأشخاص القصة قائلاً:
وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل =بتيهاء لم يعرف بها ساكن رسما
أخي جفوة فيه من الأنس وحشة =يرى البؤس فيها من شراسته نعمى
وأفرد في شعب عجوزاً إزاءها =ثلاثة أشباح تخالهم بهما
حفاة عراة ما اغتذوا خبز ملّة =ولا عرفوا للخبز مذ خلقوا طعما وبعد هذه الإضاءة لبيئة القصة، وشخوصها .. تبدأ حبكة القصة وتأزم الحدث:
ويأخذ التأزم في التطو
¥