تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهذه المعاني الأربعة لا تعارض بينها؛ وذلك أن الشمس مخلوق عظيم، كالجبال، والسماء، والأرض، يعتريها يوم القيامة من الحوادث أحوال عديدة, فمثلاً: يبتدئ الحال بأن تجمع هذه الشمس بعضها على بعض، وتلف, وبعد لفها يذهب ضوئها, وينقبض، وينحسر، ثم بعد ذلك، يذهب بها، فتزال عن موضعها, ثم يرمى بها، فيكون مستقرها أن تلقى في النار، إذ أنها من طبيعة النار؛ فإن الشمس، كما هو معروف عند علماء الفلك، جسم ناري، ملتهب، حتى إن الفلكين يقولون إنه يجري على سطح الشمس من الانفجارات الهائلة، ما يعادل ملايين الانفجارات النووية. فهي جسم ملتهب، متقد، ولذلك يصلنا القدر الذي يكفينا من ضوئها، ودفئها. وبهذا تجتمع المعاني الأربعة للفظ النكوير، دون تعارض.

هذا هو المشهد الأول، يسرح الفكر في تصور هذا المخلوق العظيم، وما يطرأ عليه يوم القيامة من التغيرات الهائلة! ولا شك أن تحول المناظر المألوفة، مما يبعث على الفزع, فإن الشيء المستقر الراتب إذا تغير يبعث على الفزع، ويحرك القلوب الراكدة.

(وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ): النجوم هي هذه النقاط التي نراها في قبة السماء، ليلاً، تبعث الضوء، وتبدو لنا صغيرة, وإن كان أهل الفلك يقولون إنها شموس كبيرة، جبارة، ولكن لبعد مسافاتها، التي تقاس بالسنين الضوئية، تبدو لنا كالنقط. وللمفسرين في معنى (انكدرت) أقوال: فمنهم من قال: إن معنى (انكدرت) تناثرت، وتساقطت، وتهافتت, شذر مذر، وتقع على الأرض من عليائها. وهذا أيضاً أمر يدعو للفزع؛ فإن الإنسان إذا رأى الشهب، والنيازك، تتقاذف في السماء أصابه روع, ولو وقع شيء منها على شيء من الأرض، أحرقه، أوترك فيها أثراً، وحفراً، يجده الناس في الصحاري، أحياناً , فكيف إذا كانت هذه النجوم، التي تعد بالملايين، يجري لها هذا الأمر؟! ويشهد لهذا المعنى قول الله تعالى في السورة التالية: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ , وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ) فهذا من الانتثار. وقيل في معنى (انكدرت): تغير لونها , فإن الكدرة هي تغير اللون، بحيث يخبو البريق، ويذهب الوهج. وهذا أيضاً حاصل؛ فإنها تسلب لمعانها، وبريقها الذي هي عليه في الدنيا. إذاً هذا مظهر آخر من مظاهر القيامة.

(وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ): هذه الجبال الرواسي، الشامخات، التي يضرب بها المثل في الثبات، تزول عن أماكنها، ويسيُّرها الله عز وجل، كما قال في الآية الأخرى: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ). وهذا هو أحد أحوال الجبال يوم القيامة، وهو حال التسيير؛ بأن تزول من أماكنها، التي كانت قد ثبتت، وأرسيت فيها، فتسير سيراً عجيباً. ثم يتلو هذا التسيير مرحلة النسف، كما قال الله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا). ويتلو هذا الحال مرحلة البس، والدق، حتى تعود هباءً منبثاً، كما قال الله عز وجل: (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا. فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا). وهكذا ينبغي أن تجمع الآيات في القضية الواحدة، ليكتمل فهمها , فلا يقال إن هذا يعارض هذا , بل يقال: إن يوم القيامة يوم طويل، تحصل فيه هذه الأحداث المتنوعة، وتتوالى.

(وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ): والعشار هي النوق العشراء، أي التي بلغت الشهر العاشر في حملها، وصارت على وشك الوضع. والنوق كانت، ولا تزال، أنفس أموال العرب, فكيف إذا كانت هذه النوق على وشك الولادة؟ لا شك أن ثمنها يعلو؛ لأن الذي يملكها يطمع في الاستيلاد، والنتاج. ومعنى (عطلت): أهملت، وتركت بلا راعٍ يرعاها، ولا موالٍ يواليها. دفع إلى ذلك هول الموقف.

(وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ): الوحش هو الحيوان غير المستأنس، الذي يعيش في الفلوات. قيل في معنى (حشرت): ماتت، وقيل، وهو الأقرب، أي جمعت؛ لأن الحشر هو الجمع الذي يصاحبه ضيق، واكتظاظ، وازدحام، كما قال الله عز وجل: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) , فهذه الوحوش التي عاشت على وجه الأرض، مما نرى، ومما لا نرى، ومما انقرض، كلها يوم القيامة تحشر، وتجمع. ويمكن الجمع بين القولين بأنها تجمع أولاً، ثم تموت، بعد ذلك؛ فإنه يقال لها: كوني تراباً.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير