تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومن المعلومِ –أيضاً- أنَّ فَنَّ التَّشبيهِ يَقْصَِدُ بِه المُشَبِّهُ أن يُقَرِّرَ المعنى، ويُمَكِّنَه ويُثَبِّتَه في نفسِ المُخاطَبِ، ويُقَرِّبَه إلى فهمِه، فإن قلتَ: زيدٌ كالأسَدِ، أو ليلى كالبدرِ، فهو لتثبيتِ معنى شجاعةِ زيدٍ وجمالِ ليلى، وتمكينِه وتقريرِه في نفسِ السّامعِ أو المُخاطَبِ. وهذا يقتضي أن يكونَ هناك مُشَبَّهٌ، ومُشَبَّهٌ به، ووَجْهُ شَبَهٍ، أو علاقةٌ شَبَهِيَّةٌ، فعندما نقولُ: زيدٌ كالأسدِ، فالمُشَبَّهُ زيدٌ، والمُشَبَّهُ به هو الأسدُ، ووَجْهُ الشَّبَهِ هو الشَّجاعةُ المعروفةُ في الأسدِ، والتي هي لازمٌ من لوازمِه، وزيدٌ هذا قد أشبَهَ الأسدَ في شجاعتِه وقُوَّةِ قلبِه، وأنَّه يُقْدِمُ فلا يخشى شيئاً. وعندما نقولُ: ليلى كالبدرِ، فالمُشَبَّهُ ليلى، والمُشَبَّهُ به هو البَدْرُ، ووَجْهُ الشَّبَهِ هو جمالُ القَمَرِ في ليلةِ البدرِ، وأُنسُ النُّفوسِ به، وليلى في جمالها وأُنسِ النَّفسِ بها قد أشْبَهَت البَدرَ.

وفَنُّ التَّشبيهِ يقتضي أوَّلاً أن يكونَ وجهُ الشَّبهِ معروفاً ومعهوداً، وثانياً أن يكونَ وَجْهُ الشَّبَهِ في المُشَبَّهِ به أعْرَفَ منه في المُشَبَّهِ، أي يَنبَغِي أن يكونَ وجهُ الشَّبَهِ في الأسدِ معروفاً بين المخاطَبين بأنَّه الشَّجاعَةُ، وأن تكونَ الشَّجاعةُ في الأسدِ أعْرَفَ منها في زيدٍ، وفي ليلى والبَدْرِ يقتضي أن يكونَ وَجْهُ الشَّبَهِ - عند التَّشبيهِ بالبَدْرِ- معروفاً بين المخاطبين بأنَّه الجَمالُ، ويقتضي أن يكونَ الجَمالُ في البَدرِ أَعْرَفَ منه في ليلى، وإلاّ فلا فائدةَ تُرجى من التَّشبيهِ.

فإذا قُلتَ في مخاطَبَةِ بَدَوِيٍّ لا يَعرِفُ السَّيَّارَةِ، لم يَسْمَعْ بها ولم يَرَها، إذا قلتَ له في وصفِ رَجُلٍ سريعٍ: فلانٌ يمشِي مَشْيَ السَّيَّارَةِ، فلن يُدْرِكَ وَجْهَ الشَّبَهِ، ولا الغَرَضَ من التَّشبيهِ، لأنَّ المُشَبَّهَ به غيرُ معروفٍ لديه، والأجدى أن تقولَ له: فلانٌ يمشي كَالغَزالِ، أو كَالفَهدِ أو كالأرنَبِ، ممّا هو مَعهودٌ بِسُرْعَتِه لدى البَدَوِيِّ،. بل رُبَّما يَفْهَمُ أنَّ السَّيَّارَةَ هي القَافِلَةُ، فيكونُ هذا دليلاً على بُطءِ الرَّجُلِ في مَشْيِهِ لا على سُرْعَتِه، لأنَّ المَعهودَ من كَلِمَةِ "سَيَّارَةٍ" عند هذا الأعرابيِّ هو القافِلَةُ وليس السَّيَّارَةَ المعروفةَ، فيفهمُ منك نقيضَ مقصودِك ...

ولو قلتَ في وَصْفِ رَجُلٍ ثقيلِ الظِّلِّ، باردٍ سمجٍ، لو قلتَ في وصفِه: فلانٌ كالغازِ السَّائلِ، فلن يفهمَ هذا إلاّ أهلُ الكيمياءِ، والأجدى والأنفعُ أن تقولَ: فلانٌ كالثَّلجِ ممّا هو معهودٌ بِبُرودَتِه لدى المُخاطَبِ ...

حتى التَّشبيهُ المَقلوبُ - والذي هو أن يُجْعَلَ ما كانَ الأصلُ فيه أن يكونَ مُشَبَّهاً مُشَبَّهاً بِه، وما كانَ الأصلُ فيه أن يكونَ مُشَبَّهاً بِه مُشَبَّهاً- لا بُدَّ فيه من مَعرِفَةِ المُشَبَّهِ والمُشَبَّهِ به ووَجْهِ الشَّبَهِ، إلاّ أنَّ المُشَبِّهَ يَدَّعي فيه أنَّ وجهَ الشَّبَهِ فيما كانَ في الأصلِ مُشَبَّهاً أعرفُ منه فيما كان في الأصلِ مُشَبَّهاً به، وهذا من بابِ المُبالَغةِ في المعنى.

فقولُنا في التشبيهِ المُعتادِ: زيدٌ كالأسدِ، وليلى كالبدرِ، يُصبحُ في التشبيهِ المقلوبِ: هذا الأسدُ كَزيدٍ، وهذا البدرُ كَليلى، وكأنَّ زيداً أصبح مشهوراً بشجاعتِه أكثرَ من الأسدِ، وحتّى صار مضربَ المَثَلِ فيها، وليلى أشهرَ وأعرفَ في جمالها من البدرِ. ومنه قولُ الشاعرِ:

وَ بَدَا الصّباحُ كأنّ غُرَّتَهُ ... وَجْهُ الخليفةِ حِينَ يُمْتَدَحُ

فالأصلُ فيه أن يقولَ إنَّ وجهَ الخليفةِ في بهائه وبهجتِه كَغُرَّةِ الصباحِ، فََقَلَبَ التشبيهَ، وادَّعى أنَّ غُرَّةَ الصباحِ في حُسنِها وبهائها وبهجتِها كوجهِ الخليفةِ، وكأنَّ الحسنَ والبهاءَ والبهجةَ التي تراها في وجهِ الخليفةِ أعرفُ وأشهرُ من غرَّةِ الصباحِ حتى صارَ وجهُ الخليفةِ مضربَ المَثَلِ في هذا المعنى.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير