تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فأقول وبالله التوفيق: ونحنُ ندَّعي في مقابل ذلك أنَّه لا بدَّ عندَ تفسيرِ كلامِ العربِ الأولين، أو الكلامِ الذي نزلَ بلسانهم من اتِّباعِ معهودِهم – أي معهودِ العربِ الأوَّلين- وتصرُّفِهم في الكلامِ آنذاك، ولا يجوز حمل الكلام على ما يستجد عند الناس من معانٍ ودلالاتٍ للألفاظ على مرِّ الزمن، ذلك أنَّ القرآنَ نزل بلسانِ العربِ الأولين، ولغتهم هم، وعلى معهودِهم واصطِلاحِهم هم في هذه الألفاظِ ومعانيها ولوازمِها، لا على معهودِنا نحن، ولا على اصطِلاحِنا نحن. والأصلُ أن يكونَ العربُ فهموها على معنىً ما معيِّن على معهودِهم في الكلامِ وتصرُّفِهم فيه آنذاك، فيكونُ هذا هو الوجهَ المقصودَ بالآيةِ، ويكونُ شافياً لِلغليلِ، لأنَّ فهمَ المفسِّرين الأوَّلين، كان هو فهم العربِ الأوَّلين أهلِ اللغة.

على سبيل المثال، أُثرَ عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّه قال لبعض نِسائه: أسرعُكُن لحوقاً بي أطولُكن يداً، والمقصود بطول اليد في معهود العرب الأولين هو البذل والعطاء والصدقة، أما في معهودنا الآن فالمقصود بطول اليد إذا وصفتَ بها رجلاً أنَّه سارق تمتد يدُه إلى ما لا يملكُ. فلا يجوز عند بيان كلام الرسول صلى الله عليه وسلم أن ننظر إن كان يمكن حمل كلامه على المعنى الجديد لـ "طول اليد"، والذي نعهدُه في كلامنا، بل ننظر في معهودِ أهل اللسانِ في ذلك الوقتِ الذي قيلَ فيه.

مثال آخر: "جيب الثوب" أو "جيب القميص" كان عند العرب الأولين بمعنى طوقِه وفرجتِه، فأصبحت الآن على معنى الجيب المعروف "المخباة" الجانبي أو مما يلي الصدر.

مثال آخر: لفظ "انصرف" يتضمَّنُ في عرفِنا معنى الإهانة، ولم يكن كذلك عند العربِ الأوَّلين. فلا يشفع لك إن قلتَ لأحدِهم: انصرف، أن تقول لا أعني بهذا إهانتك، ذلك أن العبرة بما يعهده الناس الآن من هذا المعنى، أما إن وردت في كلام العرب الأوَّلين، فلا تفهمُ منها معنى الإهانة.

وقس على هذا كلامَ العربِ الأوَّلين في شعرهم ونثرهم، فلا يجوز أن تكون دلالات هذه الألفاظِ ومعانيها متجددةً متطورةً فيما بلغنا من أشعارِهم. بل نفهمها على ما كانوا يعهدونه في الألفاظ ومعانيها ولوازمها، ولا نحملها بأي حال من الأحوال على ما استجد عندنا من معانٍ ولوازم.

ولذلك فإنَّ إبطالَ الوجه الذي أشار إليه أخونا محمد الأمين يكفي فيه أن ننظرَ إلى واقع اللغة من حيثُ هي لغةٌ، أي من حيثُ هي ألفاظٌ دالَّةٌ على معانٍ، وأنّ هذه الألفاظَ والأصواتَ حتى تكونَ لغةً شائعةً بين الناس لا بدَّ فيها من المواضعةِ والمصالحةِ، أي لا بدَّ من اشتراكِ الناسِ في معرفةِ هذه الألفاظِ ومعانيها والمقصودِ بها واتفاقِهم على ذلك، وأنَّ مخاطبتَك لشخصٍ ما - إذا لم تكن على معهودِ الكلامِ، وعرفِ اللغةِ، من حيث الألفاظُ والتراكيبُ ودلالاتُها على المعاني- لا تعدو أن تكون ضرباً من ضروبِ الهذيانِ.

وعليه نقول: إنَّ اللهَ لو خاطبَ العربَ الأقحاحَ بمفرداتِهم وتراكيبِهم، ثم لم يفهموا المرادَ من هذه الجملِ والتراكيبِ في ذلك الوقتِ، لكانَ هذا ضرباً من ضروبِ الهذيانِ الذي يُنَزَّهُ عنه منصبُ الشارع.

ونقولُ أيضاً: إنَّه لا يجوزُ أن تكونَ دلالاتُ آياتِ القرآنِ ومفرداتِه مُتَجَدِّدَةً مُتَطَوِّرَةً على مَرِّ العصورِ، يفهمُها أهلُ كلِّ عصرٍ بحسبِ ما يشيعُ في عصرِهم من معاني المُفرداتِ، وما وصل إليه من علومٍ كونيَّةٍ أو طبيعيَّةٍ، أو عَثَرَ عليه خيالُه من إشاراتٍ بعيدةٍ، لأنَّ العبرةَ إنما هي بالألفاظِ ومعانيها عند العربِ الأولين أهلِ اللسانِ، كيف كانت العربُ تعقِلُها وتفهمُها وقتَ نزولِ القرآنِ، وليس في كلِّ عصرٍ.

لا نعني بهذا أنَّه لا يجوزُ استعمالُ كلمةٍ عربيةٍ في معنىً غيرِ الذي وُضِعت له ابتداءً، بل يجوزُ وضعُها أو استعمالُها بإزاءِ معنىً غيرِ المعنى الذي وَضَعها له العربُ الأوَّلون أهلُ اللغةِ، لعلاقةٍ بين المعنى الأصيلِ والمعنى الجديدِ، على ضربٍ من التجوُّزِ والاستعارةِ المعهودةِ في كلامِ العربِ، كأن نضعَ مثلاً كلمةَ "ذَرَّة" للدلالةِ على مقصودِ التجريبيين المقابلِ لكلمةِ " atom" الإنجليزيةِ، مع أنها بأصلِ الوضعِ تدلُّ على صغارِ النَّملِ، ولفظَ "طائرةٍ أو طيّارةٍ" في الدلالةِ على معنى الطائرةِ المعروفِ، لأنَّها تشتركُ مع الطيورِ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير