أما مجيزو التفسير العلمي و يمثلهم الإمام محمد عبده، وتلميذه الشيخ محمد رشيد رضا، والشيخ عبد الحميد بن باديس، والشيخ محمد أبو زهرة، ومحدث المغرب أبو الفيض أحمد بن صديق الغماري، ونستطيع أن نعد منهم الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، صاحب أضوء البيان في تفسير القرآن بالقرآن. وهؤلاء الذين يتبنون التفسير العلمي للقرآن يضعون له الحدود التي تسد الباب أمام الأدعياء الذين يتشبعون بما لم يعطوا، ومن هذه الحدود ..
1) ضرورة التقيد بما تدل عليه اللغة العربية فلا بد من:
أ) أن تراعى معاني المفردات كما كانت في اللغة إبان نزول الوحي
ب) أن تراعى القواعد النحوية ودلالاتها
ج) أن تراعى القواعد البلاغية ودلالاتها. خصوصاً قاعدة أن لا يخرج اللفظ من الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة كافية
2) البعد عن التأويل في بيان إعجاز القرآن العلمي، أن لا تجعل حقائق القرآن موضع نظر، بل تجعل هي الأصل: فما وافقها قبل وما عارضها رفض
3) أن لا يفسر القرآن إلا باليقين الثابت من العلم لا بالفروض والنظريات التي لا تزال موضع فحص وتمحيص. أما الحدسيات والظنيات فلا يجوز أن يفسر بها القرآن، لأنها عرضة للتصحيح والتعديل إن لم تكن للإبطال في أي وقت.
المانعون من التفسير العلمي
أما المانعون من التفسير العلمي فيمثلهم في هذا العصر الشيخ أمين الخولى، و شيخ الأزهر الأسبق الشيخ محمود شلتوت، والأستاذ سيد قطب، ود. محمد حسين الذهبي، وهؤلاء المانعون يقولون ...
1) إن القرآن كتاب هداية، وإن الله لم ينزله ليكون كتاباً يتحدث فيه إلى الناس عن نظريات العلوم، ودقائق الفنون، وأنواع المعارف.
2) إن التفسير العلمي للقرآن يعرض القرآن للدوران مع مسائل العلوم في كل زمان ومكان، والعلوم لا تعرف الثبات ولا القرار ولا الرأي الأخير.
3) إن التفسير العلمي للقرآن يحمل أصحابه والمغرمين به على التأويل المتكلف الذي يتنافى مع الإعجاز، ولا يسيغه الذوق السليم.
4) ثم يقولون إن هناك دليلاً واضحاً من القرآن على أن القرآن ليس كتاباً يريد الله به شرح حقائق الكون، وهذا الدليل هو ما روي عن معاذ أنه قال: يا رسول الله إن اليهود تغشانا ويكثرون مسألتنا عن الأهلة. فما بال الهلال يبدو دقيقاً ثم يزيد حتى يستوي ويستدير، ثم ينقص حتى يعود كما كان. فأنزل الله هذه الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ (البقرة 189)
ولكن هل تكفي هذه الحجج لرفض التفسير العلمي؟
1) إن كون القرآن كتاب هداية لا يمنع أن ترد فيه إشارات علمية يوضحها التعمق في العلم الحديث، فقد تحدث القرآن عن السماء، والأرض، والشمس والقمر، والليل والنهار، وسائر الظواهر الكونية. كما تحدث عن الإنسان، والحيوان والنبات.
2) ولم يكن هذا الحديث المستفيض منافياً لكون القرآن كتاب هداية، بل كان حديثه هذا أحد الطرق التي سلكها لهداية الناس.
3) أما تعليق الحقائق التي يذكرها القرآن بالفروض العلمية فهو أمر مرفوض، وأول من رفضه هم المتحمسون للتفسير العلمي للقرآن.
4) أما أن هذا اللون من التفسير يتضمن التأويل المستمر، والتمحل، والتكلف، فإن التأويل بلا داع مرفوض، وقد اشترط القائلون بالتفسير العلمي للقرآن شروطاً من بينها أن لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا إذا قامت القرائن الواضحة التي تمنع من إرادة الحقيقة.
أما الاستدلال بما ورد في سبب نزول الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ .. فهو بحاجة إلى أن يثبت، وإلا فهو معارض بما رواه الطبري في تفسيره عن قتادة في هذه الآية ... قالوا سألوا النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لم جعلت هذه الأهلة؟ فأنزل الله فيها ما تسمعون هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ... فجعلها لصوم المسلمين ولإفطارهم ولمناسكهم وحجهم ولعدة نسائهم، ومحل دينهم في أشياء، والله أعلم بما يصلح خلقه، وروي عن الربيع وابن جريج مثل ذلك. ففي هذه الروايات التي ساقها الطبري، أن السؤال هو: لم جعلت هذه الأهلة؟ وليس السؤال ما بال الهلال يبدو دقيقاً ثم يزيد حتى يستوي ويستدير ثم ينقص؟ ولذلك فإنه لا دليل في الآية على إبعاد التفسير العلمي.
ثم قال الباحث: والخلاصة
1) أن التفسير العلمي للقرآن مرفوض إذا اعتمد على النظريات العلمية التي لم تثبت ولم تستقر ولم تصل إلى درجة الحقيقة العلمية.
2) ومرفوض إذا خرج بالقرآن عن لغته العربية.
3) ومرفوض إذا صدر عن خلفية تعتمد العلم أصلاً وتجعل القرآن تابعاً
4) وهو مرفوض إذا خالف ما دل عليه القرآن في موضع آخر، أو دل عليه صحيح السنة.
5) وهو مقبول بعد ذلك إذا التزم القواعد المعروفة في أصول التفسير من الالتزام بما تفرضه حدود اللغة، وحدود الشريعة، والتحري والاحتياط الذي يلزم كل ناظر في كتاب الله.
6) وهو – أخيراً – مقبول ممن رزقه الله علماً بالقرآن وعلماً بالسنن الكونية لا من كل من هب ودب، فكتاب الله أعظم من ذلك. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
(يتبع)
¥