القلب، ويبصر الأشياء كما هي، ويميز بين الحق والباطل، يكون عنده فرقان، ويركل هذه الشهوات، فتبدو أمامه، وكأنها لا شيء، لا يباليها، ولا يتأثر بها، بفضل هذه الذكرى التي قامت في قلبه؛ من العلم بالله، ومعرفته. وهذا يدلنا على أهمية تعاهد القلب بالذكرى، فإن حياة القلب بالذكرى (فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) فليحذر الإنسان من الغفلة. قال الله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) فإذا آنست من قلبك قسوة، فاستلنه بالذكرى، وابحث عن مثيرات الإيمان، ومثبتات اليقين، حتى يرجع القلب إلى صحته، وطبيعته. وإياك أن تتمادى في الغفلة، فإنه كلما تماديت صعب العود.
ثم تغير أسلوب السورة، وأتى لون جديد من وقع الآيات، والجمل، فقال تعالى:
(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا) وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) في القرآن من الوقع الجميل، والتأثير البليغ، والأسجاع الحسنة، ما يأخذ بمجامع القلوب.
(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) هذا استفهام تقريري، بمعنى جعلنا له عينين، ولسانا وشفتين، وهديناه النجدين. وهذا من مظاهر ربوبية الله في النفس؛ لأن مظاهر الربوبية تكون في النفس، وتكون في الأفاق، ففي هذه السورة ذكر الله تعالى مظاهر الربوبية في النفس، وفي السورة التالية، سيذكر مظاهر الربوبية في الآفاق. وقد قال ربنا، عز وجل: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)
جعل الله تعالى لكل إنسان عينين يبصر بهما، وهذا من عجائب الخلق! فما الذي أودع هذه الخلايا القدرة على البصر؟ لمَ لا يبصر الإنسان بإبهامه؟ كيف جعل الله، عز وجل، هذه الحدقة، وفيها العين التي كاللؤلؤة تتألق، وتبصر الأشياء، وتتعرف عليها؟
وفي هذه اللفتات، هز لهذه النفوس الغافلة، التي وجدت نفسها على هيئة معينة، ثم لم تتفكر في أنفسها. وقد قال ربنا (وفي أنفسكم أفلا تبصرون).
(وَلِسَانًا) هذا اللسان يتكون من عشرات، وربما المئات، من العضلات، التي تعمل في كافة الاتجاهات؛ صعودًا، وهبوطًا، يمنًة، ويسرًة، تقوسًا وامتدادًا، لتساعد في تكوين الكلمات، والبيان. لو قطع اللسان، لو شل، لصار الإنسان كالبهيمة العجماء، لا يستطيع أن يعرب عن نفسه.
(وَشَفَتَيْنِ) هاتان الشفتان اللتان كالبوابة لجوف الإنسان، يفتحهما، ويغلقهما بمقدار، فيهما جمال، وفيهما فائدة. لو تأمل الإنسان في فائدتها، لوجد عجبا؛ هذه الأنسجة التي تغطي الشفتين، ذات طبيعة خاصة لحفظ للجوف. ويتبين لك ذلك حينما يصاب الإنسان بآفة في شفتيه؛ فيتعطل كلامه، أو يلتاث، ويسيل لعابه من فيه، كما المعتوه، أو البهيمة. يدرك الإنسان أن هذا الخلق خلق عجيب، وضع في موضعه. وهذا جزء من كل، وقليل من كثير، من عجيب خلق الله للإنسان. وإلا فإن في خلق الإنسان، ما إن يعد، لا يحصى، من عجيب خلق الله سبحانه وتعالى.
ثم تأمل (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) هديناه أي: دللناه، وبينا له، وعرفناه. وهذه الهداية هداية دلالة، وبيان؛ لأن المراد بالنجدين: طريق الخير، أو الشر. يعني: أن الله سبحانه وتعالى، عرف هذا الإنسان الخير والشر، وأمره بالخير، ونهاه عن الشر.
والأصل أن النجد: ما ارتفع عن الأرض، فكأنه طريق بيِّن، واضح، لبروزه وظهوره. وقال بعض المفسرين إن المراد (بالنجدين) الثديين. ومناسبة اللفظ للثديين واضح لأن الثدي بارز. وهذا القول ليس بعيدًا، وإن كان القول الأول قول أرجح. لكن مع ذلك فإن هذا القول وقد روي عن بعض الصحابة، ليس بعيدًا، لأنه مناسب لما تقدم من ذكر اللسان، والشفتين، والعينين.
فلا عجب أن يراد بالنجدين الثديين (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)، وذلك أن الله سبحانه وتعالى ألهم المولود أن يلتقم ثدي أمه، دون أن يتلقى دروسًا في طريقة الرضاعة! طفل لا يملك شيئا من المعرفة، ومع ذلك ما أن تضمه الأم إلى صدرها، وتلقمه حلمة ثديها، حتى يشرع في تناول رزقه، من بين له ذلك؟ من عرفه ذلك؟ وشيئًا، فشيئًا، يصبح الأمر بالنسبة له وجبة معتادة.
الفوائد المستنبطة
الفائدة الأولى: تعظيم مكة شرفها الله لأن الله تعالى أقسم بها.
الفائدة الثانية: زيادة شرفها بحصوله - صلى الله عليه وسلم – فيها.
الفائدة الثالثة: بيان اسم من أسماء مكة (البلد).
الفائدة الرابعة: أن الدنيا دار مكابدة وعناء، وهي على الكافر أشد.
الفائدة الخامسة: تسلية النبي (صلى اله عليه وسلم)، وتسلية كل مؤمن.
الفائدة السادسة: سوء تقدير الكافر، وغروره. فحسابات الكافر دائمًا، خاطئة ونتائجها خاطئة. لأنها انطلقت من مقدمات خاطئة.
الفائدة السابعة: ذم الصلف، والمباهاة.
الفائدة الثامنة: غفلة الكافر عن اطلاع الله عليه.
الفائدة التاسعة: كمال ربوبية الله سبحانه.
الفائدة العاشرة: هداية الدلالة، والبيان، على أن المراد: (بالنجدين) طريق الخير أو الشر. وعلى القول أن المراد: (الثديين)، فهي الهداية العامة، وهي هداية العبد لمصالحه المعاشية.
¥