- وقيل: (الدين) بمعنى الحكم والقضاء. فلا يسوغ إذا كان الإنسان يعلم بأن الكافر يرد إلى: (أسفل سافلين)، وأن المؤمن يؤتى أجرًا غير ممنون، أن يعصي الله - عز وجل -، بل يجب عليه أن يمتثل أمره، وأن يجتنب نهيه، وأن يصبر على قضائه؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - هو المثيب، وهو المعاقب، فإذا كان هو المثيب وهو المعاقب، فلابد أنه يأمر وينهى، ويقضي ويحكم. ولهذا قال:
(أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ): والجواب: بلى! فيكون الاستفهام: تقريرياً. وقد وصف الله نفسه (أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ)، ومعنى ذلك أنه أثبت وصف الحكم لغيره، لكنه –سبحانه- أحكمهم. وهذا يدل على إمكان الاشتراك في أصل الصفة، أي المعنى المشترك الكلي، المطلق، الموجود في الأذهان، لا خارج الذهن. ولكن الله - تعالى - له المثل الأعلى، فلا يقع حينئذ اشتراك في الأعيان؛ لأنه إذا انفرد - سبحانه بالمثل الأعلى للصفة، فإنه لا يمكن أن يشابهه، ويماثله أحد في ذلك، فيزول المحظور الذي تدعيه سائر فرق المعطلة.
ولهذا لَمَّا وَفَدَ أبو شريح، - رضي الله عنه - إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ قَوْمِهِ سَمِعَهُمْ يَكْنُونَهُ بِأَبِى الْحَكَمِ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ فَلِمَ تُكْنَى أَبَا الْحَكَمِ».
فَقَالَ: إِنَّ قَوْمِى إِذَا اخْتَلَفُوا فِى شَىْءٍ، أَتَوْنِى فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ، فَرَضِىَ كِلاَ الْفَرِيقَيْنِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَا أَحْسَنَ هَذَا فَمَا لَكَ مِنَ الْوَلَدِ».
قَالَ: لِى شُرَيْحٌ، وَمُسْلِمٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ.
قَالَ: «فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ».
قُلْتُ: شُرَيْحٌ
قَالَ: «فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ». [رواه أبو داود، والنسائي، وصححه الألباني].
وذلك لما يوهمه لقب (أبو الحكم) من بلوغ الغاية في الحكم، فإن أبا الشيء، كأنه المستبد به، المستوعب له، والمستولي عليه، وهذا لا يكون إلا لله - عز وجل - فإن الله - تعالى - له المثل الأعلى.
وقد ورد أنه يقال في آخر هذه السورة: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين؛ جواباً للسؤال. ولكن الرواية جاءت من طريق قتادة، مرسلة، وجاءت عن قتادة منسوبة إليه، يعني: بسند مقطوع. فالإسناد الأول، يسمى منقطع، والثاني مقطوع. فهو لم يثبت. وممن ضعفه الألباني - رحمه الله - وكذلك الحال عند قول الله - تعالى - (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)، لم يصح في جوابه رواية مرفوعة.
ولا بأس أن يأتي الإنسان بجواب مناسب لسؤالٍ ملقى، لكنه لا يفعل ذلك على سبيل الالتزام، لأن هذا يحتاج إلى توقيف.
الفوائد الستنبطة
§ الفائد الأولى: أن لله - تعالى - أن يقسم بما شاء من مخلوقاته.
§ الفائدة الثانية: ترابط الشرائع السماوية، وأن دين الله واحد.
§ الفائدة الثالثة: أن الأصل سلامة الإنسان، واستواء خلقه، ظاهرًا وباطنًا.
§ الفائدة الرابعة: إفساد الكافر لفطرته السوية، وتغييره لخلق الله.
§ الفائدة الخامسة: أن الإيمان يحفظ الفطرة السوية وينميها.
§ الفائدة السادسة: اقتران العمل بالإيمان، وأنه لا إيمان بلا عمل.
§ الفائدة السابعة: سعة فضل الله، وعطاءه.
§ الفائدة الثامنة: إثبات الجزاء، والحساب، إذا قلنا إن المراد بالدين الجزاء.
§ الفائدة التاسعة: إثبات حكم الله، وحكمته.
§ الفائدة العاشرة: إثبات المثل الأعلى لله تعالى.