وتحولت سلطات صنع " القرارات التنفيذية " فى النظم الشورية والديمقراطية عن سلطة الفرد إلى سلطان المؤسسات المشاركة فى الإعداد لصناعة القرار .. فإذا شاركت المرأة فى هذه المؤسسات، فليس بوارد الحديث عن ولاية المرأة لهذه السلطات والولايات، بالمعنى الذى كان فى ذهن الفقهاء الذين عرضوا لهذه القضية فى ظل " فردية " الولايات، وقبل تعقد النظم الحديثة والمعاصرة، وتميزها بالمؤسسية والمؤسسات ..
لقد تحدث القرآن الكريم عن ملكة سبأ - وهى امرأة - فأثنى عليها وعلى ولايتها للولاية العامة، لأنها كانت تحكم بالمؤسسة الشورية لا بالولاية الفردية (قالت يا أيها الملأ أفتونى فى أمرى ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون) (9) .. وذم القرآن الكريم فرعون مصر - وهو رجل لأنه قد انفرد بسلطان الولاية العامة وسلطة صنع القرار (قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) (10) .. فلم تكن العبرة بالذكورة أو الأنوثة فى الولاية العامة حتى الولاية العامة وإنما كانت العبرة بكون هذه الولاية " مؤسسة شورية "؟ أم " سلطانا فردياً مطلقاً "؟ أما ولاية المرأة للقضاء .. والتى يثيرها البعض كشبهة على اكتمال أهلية المرأة فى الرؤية الإسلامية ..
فإن إزالة هذه الشبهة يمكن أن تتحقق بالتنبيه على عدد من النقاط:
أولها: أن ما لدينا فى تراثنا حول قضية ولاية المرأة لمنصب القضاء هو " فكر إسلامى " و " اجتهادات فقهية " أثمرت " أحكاماً فقهية " .. وليس "دينا " وضعه الله سبحانه وتعالى وأوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فالقرآن الكريم لم يعرض لهذه القضية، كما لم تعرض لها السنة النبوية، لأن القضية لم تكن مطروحة على الحياة الاجتماعية والواقع العملى لمجتمع صدر الإسلام، فليس لدينا فيها نصوص دينية أصلاً، ومن ثم فإنها من مواطن ومسائل الاجتهاد ..
ثم إن هذه القضية هى من " مسائل المعاملات " وليست من " شعائر العبادات " .. وإذا كانت " العبادات توقيفية " تُلْتَمس من النص وتقف عند الوارد فيه، فإن " المعاملات " تحكمها المقاصد الشرعية وتحقيق المصالح الشرعية المعتبرة .. والموازنة بين المصالح والمفاسد فيها .. ويكفى فى " المعاملات " أن لا تخالف ما ورد فى النص، لا أن يكون قد ورد فيها نص ..
ومعلوم أن " الأحكام الفقهية " التى هى اجتهادات الفقهاء، مثلها كمثل الفتاوى، تتغير بتغير الزمان والمكان والمصالح الشرعية المعتبرة ..
فتولى المرأة للقضاء قضية فقهية، لم ولن يُغْلَق فيها باب الاجتهاد الفقهى الإسلامى ..
وثانيها: أن اجتهادات الفقهاء القدماء حول تولى المرأة لمنصب القضاء هى اجتهادات متعددة ومختلفة باختلاف وتعدد مذاهبهم واجتهاداتهم فى هذه المسألة، ولقد امتد زمن اختلافهم فيها جيلاً بعد جيل ..
ومن ثم فليس هناك " إجماع فقهى " فى هذه المسألة حتى يكون هناك إلزام للخلف بإجماع السلف، وذلك فضلاً عن أن إلزام الخلف بإجماع السلف هو أمر ليس محل إجماع .. ناهيكم عن أن قضية إمكانية تحقق الإجماع أى اجتماع سائر فقهاء عصر ما على مسألة من مسائل فقه الفروع كهذه المسألة هو مما لا يُتَصَوَّر حدوثه حتى لقد أنكر كثير من الفقهاء إمكانية حدوث الإجماع فى مثل هذه الفروع أصلاً.
ومن هؤلاء الإمام أحمد بن حنبل [164 241 هجرية 780 855 م] الذى قال: " من ادعى الإجماع فقد كذب! ".
فباب الاجتهاد الجديد والمعاصر والمستقبلى فى هذه المسألة وغيرها من فقه الفروع مفتوح .. لأنها ليست من المعلوم من الدين بالضرورة أى المسائل التى لم ولن تختلف فيها مذاهب الأمة ولا الفِطر السليمة لعلماء وعقلاء الإسلام ..
وثالثها: أن جريان " العادة " فى الأعصر الإسلامية السابقة، على عدم ولاية المرأة لمنصب القضاء لا يعنى " تحريم " الدين لولايتها هذا المنصب، فدعوة المرأة للقتال، وانخراطها فى معاركه هو مما لم تجربه " العادة " فى الأعصر الإسلامية السابقة، ولم يعن ذلك " تحريم " اشتراك المرأة فى الحرب والجهاد القتالى عند الحاجة والاستطاعة وتعيُّن فريضة الجهاد القتالى على كل مسلم ومسلمة .. فهى قد مارست هذا القتال وشاركت فى معاركه على عصر النبوة والخلافة الراشدة .. من غزوة أُحد [3 هجرية 625م] إلى موقعة اليمامة [12 هجرية 633 م] ضد ردة مسيلمة الكذاب [12 هجرية 633 م] .. وفى " العادة " مرتبطة
¥