تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إنها الأمية العقلية التي نعيشها اليوم مع القرآن، والتي تعني ذهاب العلم على الرغم من تقدم فنون الطباعة، ووسائل النشر، وتقنيات التسجيل، ولعل فيما يذكره ابن كثير رحمه الله عند تفسير الآية الثالثة والستين من سورة المائدة، في الجدال الذي وقع بين الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه زياد بن لبيد، مؤشرا دقيقا على الأمية العقلية التي صرنا إليها مع كتاب الله؛ فعن الإمام أحمد رحمه الله، قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فقال: «وذاك عند ذهاب العلم»، قلنا: يا رسول الله كيف يذهب العلم ونحن قرأنا القرآن ونقرئه أبناءنا، وأبناؤنا يقرئون أبناءهم؟ فقال: «ثكلتك أمك يا ابن لبيد، إن كنت لأراك من أفقه رجل في المدينة، أوليس هذه اليهود والنصارى بأيديهم التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء؟!».

وقد تكون مشكلة المسلمين كلها اليوم في منهج الفهم الموصل إلى التدبر، وكسر الأقفال من على العقول والقلوب، وتجديد الاستجابة، وتجديد وسيلتها؛ ليكونوا في مستوى القرآن، ومستوى العصر، ويحققوا الشهود الحضاري، ويتخلصوا من الحال التي استنكرها القرآن: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص: 29].

ليست أزمة منهج

وهنا قضية أعتقد أنه من المفيد التوقف عندها ولو قليلا؛ ذلك أن كثيرا من العاملين في حقوق الفكر والمعرفة يظنون أن معادلة المسلمين الصعبة اليوم وأزمتهم الفكرية تتمثل في غياب المنهج، ويجهدون أنفسهم بالبحث والدرس، وتقليب الأمر على وجوه كثيرة، وقد يكون من ذلك التطلع إلى ما عند الآخرين!

وفي تصوري أن الأزمة التي لا نزال نعاني منها ليست بافتقاد المنهج؛ فالمنهج (مصدر المعرفة) موجود، ومعصوم، ومختبر تاريخيا، لكن المشكلة بافتقاد وسائل الفهم الصحيحة، وأدوات التوصيل، وكيفية التعامل مع القرآن، فالله سبحانه وتعالى يقول: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَة وَمِنْهَاجا} [المائدة: 48]، ويقول: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيما فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «لو أن موسى كان فيكم حيّا ما وسعه إلا أن يتبعني»؛ وذلك عندما تطلع بعض الصحابة إلى تحصيل المعرفة من التوراة.

ونخشى عند التساهل والقبول بأن الأزمة التي نعاني منها أزمة منهج، وليست أزمة فهم للقرآن الذي هو مصدر للمعرفة، عندها قد ينأى بنا السير إلى السقوط في التعامل مع مناهج أخرى، والافتتان عما نزل إلينا، أو بعضه: {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49].

لذلك لا بد أن نقرر بأن الأزمة أزمة فهم، وأزمة تعامل، وأزمة أمية عقلية، صرنا إليها بذهاب العلم (مناهج الفهم)، و (وسائل المعرفة).

والجهود فيما نرى اليوم يجب أن تنصب على منهج الفهم، وإعادة فحص واختبار المناهج القائمة التي أورثتنا ما نحن عليه، والتحرر من تقديس الأبنية الفكرية الاجتهادية السابقة التي انحدرت إلينا من موروثات الآباء، والأجداد، والمناخ الثقافي الذي يحيط بنا منذ الطفولة، ويتسرب إلى عقولنا فيشكلها بطريقة التفاعل الاجتماعي؛ الأمر الذي أدى إلى انكماش الفكر والرؤية القرآنية، والتحنط في بطون التاريخ التي تشكلت في عصور التخلف والتقليد، والتي حالت دون إدراك أبعاد النص القرآني، والقدرة على تعديته للزمان والمكان، وذلك أن الصورة التي طبعت في أذهاننا، في مراحل الطفولة، للقرآن أنه: لا يستدعى للحضور إلا في حالات الاحتضار والنزع، والوفاة، أو عند زيارة المقابر، أو نلجأ لقراءته عند أصحاب الأمراض المستعصية، وهي قراءات لا تتجاوز الشفاه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير