تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يفتتح إيزوتسو كتابه "الله والإنسان في القرآن" بفصل خاص بعنوان (الدرس الدلالي والقرآن) يحدد من خلاله معالم دراسته فيذكر أن دلالات الألفاظ وتطوّرها، أو ما يسمّى عِلْم الدّلالة Semantics تمثِّل الجانبَ المنهجيّ لعمله، بينما يمثِّلُ القرآنُ جانبَه المادّي [28]، ويحدد الشريحة التي يتوجه إليها الكتاب بأنهم القرّاء الذين كان لديهم من قبْلُ معرفة عامّةً جيّدةً بالإسلام وهم، تبعاً لذلك، مستّعدون لأن يكونوا منذ البدء مهتمّين بقوّة بالمسائل المفهوميّة التي أثارها هذا الضَّرْبُ من الدَّرْس فيما يتصل بالقرآن نفسه.

ولا يتغاضى إيزوتسو عن حقيقة أنّ ما يسمّى عِلْم الدّلالة Semantics معقَّدٌ على نحو مُذْهِل للغاية. ومن الصّعب جدّاً، هذا إن لم يكن مستحيلاً، على شخصٍ غير متخصّص أن يظفر حتّى بفكرةٍ عامّةٍ عن ماهيّة هذا العِلّم، فـ "عِلْم الدّلالة"، كما يرى إيزوتسو، من حيث هو دراسةٌ للمعنى، لا يمكن أن يكون إلاّ نمطاً جديداً من الفلسفة مبنيّاً على تصوّر جديد تماماً للكون والوجود وشاملاً لأفرع كثيرة مختلفة ومتنوّعة جدّاً من أفرع العِلْم التقليديّ، التي ما تزال حتّى الآن في أيّة حال بعيدةً عن أن تكون قد أنجزت المثَلَ الأعلى لتكاملٍ تامّ. كما يلحظ أنه علم يفتقر إلى التناغم والانسجام، وأن ما نمتلكه في أيدينا عددٌ من النظريات المختلفة للمعنى [29].

تأسيساً على هذه الملاحظات يسجل إيزوتسو تصوره الخاص لعلم الدلالة الذي سيعتمده في دراسته فيقول:"عِلْم الدّلالة كما فهمتهُ هو دراسةٌ تحليلية للتعابير المفتاحية Key- terms في لغةٍ من اللغات ابتغاءَ الوصولِ أخيراً إلى إدراكٍ مفهوميٍّ للنّظرة إلى العالم Weltanschauung لدى النّاس الذين يستخدمون تلك اللّغة أداةً ليس فقط للتحدّث والتفكُّر، بل أيضاً، وهذا أكثرُ أهمّيةً، لتقديم مفهوماتٍ وتفاسير للعالَم الذي يحيط بهم." [30]

فهدف الدراسة الدلالية للقرآن البحث عن رؤية القرآن لكيفية بناء عالَم الوجود، وما المكوِّناتُ الرّئيسةُ للعالم، وكيف يُرْبَط بعضُها ببعض، فيكون عِلْمُ دلالات الألفاظ وتطوّرها، في هذا المعنى، نوعاً من عِلْم الوجود ontology- علم وجود محّدد وحيّ ومتحرّك [31].

ولانجاز عمله يوضح المرتكزات الأساسية التي ستضبط تحليله الدلالي، وذلك من خلال مداخل أساسية، أو مصطلحات اعتمدها أو ابتكرها ليوضح فكرته، وهي:

1 - شبكة المفهومات في القرآن:

إن جوهر عمل إيزوتسو كما حدده هو دراسةٌ تحليلية للتعابير المفتاحية في القرآن والتي تعبر عن المنظور القرآني للعالم، لكن ذلك ليس مجرد اختيار مفهومات من المعجم اللغوي للقرآن، بل هي – كما يقول - مهمة صعبة، ذلك لأنّ هذه الكلمات أو المفهومات – كما يصفها إيزوتسو- ليست موجودةً هكذا في القرآن مستقلاً كلٌّ منها عن الأخريات، بل إنّ كلاًّ منها تعتمد على صاحبتها اعتماداً قويّاً، وتستمدّ معانيها المحدّدة على نحو دقيق من جملة نظام العلاقات. وبكلماتٍ أُخَر، تؤلِّف فيما بينها مجموعاتٍ متنوّعة، كبيرة وصغيرةٍ، مرتبطاً كلٌّ منها بالأخرى أيضاً بطرائق مختلفة، وهكذا تؤلّف في النهاية كُلاً منظّماً شبكةً غايةً في التعقيد والتركيب من الترابطات المفهوميّة [32]. فإيزوتسو يبحث عن النظام المفهومي الذي يعمل في القرآن، لا المفهومات الفردية منظوراً إليها بعيداً عن البناء العام، أو ما يسميه "البنية المتكاملة" التي اندمج فيها المفهوم.

2 - التحول الدلالي من خلال السياق القرآني:

يسجل إيزوتسو ملاحظة يعتبرها جوهرية في عمله وهي ملاحظة التحول الدلالي للمفردة اللغوية التي كانت متداولة قبل الإسلام عبر إدخالها في سياق قرآني جديد ودمجها ضمن نظام مفهومي مختلف، فألفاظ القرآن كانت متداولة، بل إنه - كما يرى - ليس من التعابير المفتاحية التي تؤدّي وظيفةً حاسمة في صياغة نظرة القرآن إلى العالَم بما فيها اسْمُ "الله" نفسُه، ما كان بأيّ معنى من المعاني تعبيراً جديداً مبتكَراً. فقد كانت كلُّها تقريباً مستخدمةً بصورةٍ أو بأخرى في الأزمنة التي سبقت الإسلام. وعندما بدأ الوَحْيُ الإسلاميّ باستخدام هذه الكلمات، كان النظامُ كلُّه، أي السّياقُ العامُّ الذي استُخدِمت فيه، هو الذي صدَم مشركي مكّة بوصفه شيئاً غريباً تماماً وغيرَ مألوف، ولذلك، غيرَ مقبول، وليس

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير