تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إن استنباط الهدى المنهاجي أمر يسير لمن يسره الله سبحانه وتعالى عليه، لكنه من حيث الإنجاز هو أمر متقدم، يأتي بعد قراءة القرآن وتلاوته وفهمه والعمل به، وبعد ذلك يأتي استنباط الهدى منه. وللقيام بهذا الاستنباط هناك شروط:

الشرط الأول: إتقان ما يلزم لفهم القرآن، بدءاً باللسان. واللسان في القرآن هو اللغة ?وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ? (الشعراء:192 - 195)، ففهمُ أيّ نص كان قرآنا أو غير قرآن يحتاج إلى التمكن من "المقام"، والتمكن من "المقال"، أي يحتاج إلى ما يلزم لفهم هذا النص من علوم المقام وعلوم المقال. لابد من إتقان اللغة العربية، فمن لا يتقن اللغة العربية محال بينه وبين استنباط هذا الهدى. فلابد من التمكين للغة العربية في مختلف المجالات، لابد من التمكين لها بقوة في التعليم وفي الإعلام وفي الإدارة وفي الحياة العامة، لابد من إيجاد مناخ لغوي، بل مستوى لغوي عربي عام يؤهل الإنسان لتلقي القرآن، ويحضره للمراحل القادمة لاستنباط الهدى من القرآن. هذه نقطة في غاية الأهمية والخطورة في الأمة اليوم. فعلى المسلمين أن يفقهوا الخطر وأن يكونوا في مستوى التحدي في المجال اللغوي، هذا عن المقال.

أما عن المقام فيجب أن نعلم أن الذي يتكلم بهذا القرآن هو رب العالمين، فالقرآن الكريم كلام الله عز وجل، وليس كلام أي أحد، وفيه دليله من مثل قوله سبحانه: ?أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ? (العنكبوت:51). اعرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعرفوا القرآن، ستجدون بوضوح أنه لا يمكن أن يكون القرآن كلام محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن يكون كلام العرب جميعا شعراء وخطباء في ذلك العصر ولا فيما تلاه، ولا يمكن أن يكون كلام أمة أخرى بالأولى. فواضح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينطق نطقين: ينطق نطقا اسمه القرآن، وينطق نطقا اسمه السنة، اقرأ هذا واقرأ هذا، وستجد الفرق كبيرا بين الكلامين. قارن القرآن بصحيح البخاري أو بصحيح مسلم، تجد أن هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن هذا نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه كلام الله عز وجل، له بناء خاص جزئي وكلي، فكتاب الله عز وجل من حيث البناء له مقدمة هي الفاتحة، وله خاتمة هي سورة الإخلاص والمعوِّذتين، وله بناء معين في أقسامه الأربعة: من السبع الطوال إلى المئين والمثاني فالمفصل، ولكل جزء منه وضع خاص. فهذا أمر لابد من اليقين فيه من أن الذي يتكلم هو الله جل جلاله، إذ لابد لفهم الخطاب فهما صحيحا أن يُعلم مَن الذي يتكلم به، من المخاطِب؟ وأن يُعلم أيضا من المخاطَب؟ سواء رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الفترة بكاملها، من هم العرب إذّاك؟ ما مكة؟ ما المدينة؟ ما أولئك الناس؟ كيف كان حالهم؟ وكيف هم؟ وكيف هي عادتهم في الخطاب؟ لابد من معرفة هذا المقام، ومن معرفة طبيعة العلاقة، وكل ما كانوا عليه. فهذه الأمور مما يدخل أحيانا في علوم القرآن بصفة عامة، خصوصا ظروف النزول وما يتصل بالنزول، وما يتصل بالتدوين، كل ذلك لابد من العلم به لتيسير هذه الخطوة.

والشرط الثاني: الإيمان وارتداء لباس القرآن، وقد عبرت باللباس لأن الله تعالى قال: ?وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ? (الأعراف:26). لأن القرآن خُلُق، "كان خلقه القرآن" صلى الله عليه وسلم، كما أجابت أم المومنين عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن خلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم (رواه مسلم). والتقوى لباس يُلبس، بمعنى أنه يجب أن يكون ظاهرا في لسان العبد وفي عينه وفي أذنه وفي قلبه، وفي كل شيء من جوارحه. فلابد من الإيمان، لأن الله تعالى قال: ?قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ? (فصلت:44). فلا يسمعون إذ لا صلة لهم بالقرآن، فالذي لا يؤمن بالقرآن لا يمكن أن يفهم القرآن، ولذلك لا يمكن أن يؤخذ عنه علم القرآن. والذي لا يعمل بالقرآن أيضا لا يمكن أن يؤخذ منه لا القرآن ولا علم القرآن. هذا العمل هو الذي يعطي النور ?يَا أَيُّهَا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير