وهذا التيار التجديدي الذي قاده خلف الله هو الذي مهد الطريق لقراءات حديثة للقرآن بنفس المنهج ولكن بعدة معرفية أكثر تطورا. وهو ماسماه النيفر بالقراءة التأويلية وفتوحات المعرفة. وقد اغتنى هذا التيار من مكاسب الفكر الغربي، ويمثله محمد أركون ونصر حامد أبوزيد وفضل الرحمان الباكستاني.
فأركون ربط بين الخصوصية اللغوية للنص القرآني وبين مسألة التأويل، كما أنه ينفي المعنى النهائي للنص، ويلح على أن النص ظاهرة ثقافية تقترح لها مناهج للتفكيك والتأويل بالاعتماد على "فتوحات العلم الحديث"، وذلك قصد اكتشاف خصائص التفكير الذي جاء النص القرآني ليؤسسه؛ ذلك أن الوحي، بنظر هذا التيار، في جانب أساسي منه، تعبير عن إنسانية العرب وزمنيتهم، مما يعني أن المتعالي لا يتجلى إلا في التاريخ وأن المقدس لا يظهر إلا عبر الدنيوي، وأن الوحي لا يقرأ إلا بلغة مخصوصة!
إن محمد أركون يرى أن لا تحديث للفكر الإسلامي إلا باعتبار النص القرآني غنيا ومنفتحا على عدة احتمالات؛ أي أنه معروض للفكر الإنساني أن يتأمله ويفكر فيه دون انقطاع. من هنا دعا أركون إلى دراسة النص القرآني والنصوص الثانية، أي الجهد التفسيري القديم، على أساس منهج تفكيكي أو حفري (أركيولوجي)، واستعمال آليات الالسنيات الحديثة وما تطرح على النص من أسئلة تختلف جذريا عما كانت تطرحه اللغويات التقليدية التي استخدمها كبار المفسرين في العصور السابقة، ثم معالجة الخصوصيات الثقافية والمجتمعية باعتماد الأنتروبولوجيا وما تتيحه من تحليل للمنظومات التفسيرية للعالم مثل "الأسطورة". وبتوظيف هذه الآليات التطبيقية يمكن لقارئ النص القرآني تجاوز منطوق الخطاب للبحث عن مضمراته، والكشف عن آليات عمله مما يتيح قراءة مالم يقرأ في النص عبر الوعي بالنظام المعرفي.
إذا مثلنا لتطبيقات أركون التفكيكية، نأخذ سورة الكهف؛ إذ اعتبر قصة الفتية من منطلق انتروبولوجي، بنظره، من قبيل القصص الأسطورية أي القصص التي تعتني بعبقرية التشكيل والتركيب والإبداع، والمقدرة على الإحياء وتقديم العبرة للناس، وليست حقائق تاريخية! (ص97).
أما نصر حامد أبو زيد فإن قراءته تضع لنفسها هدفا هو التوصل إلى اكتشاف العلاقات العضوية المبثوثة في مختلف مجالات الفكر التراثي العربي الإسلامي. أي الوعي بمنهج التراث والآليات الفكرية لبنيته. وقد استثمر في مشروعه أدوات نظرية تأويل النصوص أو "الهرميونيطيقا"؛ وهي نظرية تهتم بعملية الفهم وآليات شرح النص الديني وتأويله. والتأويل عند نصر حامد أبو زيد هو الحركة الذهنية لإدراك الظواهر وهي عملية إستنتاجية بصرف الآية إلى ما تحمله من المعاني الموافقة لما قبلها وما بعدها. ويشدد أبو زيد على الارتباط بين النص القرآني والواقع التاريخي، ويرفض مقولة اعتبار القرآن مصدرا للمعرفة التامة بتجاهل علاقته مع الزمان والمكان.
إن النص عند حامد أبو زيد له كينونته والقارئ له أفق، وعليه أن يعمل لجذب النص إلى أفقه من خلال المعرفة. وفهم الواقع وإدراك حركيته والتأويل عند نصر حامد هو الوجه الآخر للنص، وهو يمثل آلية من آليات إنتاج المعرفة. ولا يمكن اعتبار النص صالحا لكل زمان ومكان إلا إذا كان منتجا ثقافيا، ترجع إليه النصوص الأخرى فتجدد به مشروعيتها.
أما الباحث الباكستاني فضل الرحمن (1919 - 1988م) فقد ذهب في منهجه التجديدي إلى مستوى بعيد جدا فاعتبر القرآن كلام الله وكلام الرسول، وألح هو أيضا على المنهج التاريخي في فهم القرآن لأحداث تغيير في البناء الثقافي الإسلامي.
هذا المنهج التاريخي يتحرك على محورين:
الأول: فهم النص في الزمان القرآني الذي شهد نزوله.
الثاني: رصد "كليات القرآن" المكونة للوحدة الأساسية له والتي تجعل له موقفا محددا من الحياة ونظرة للعالم. ثم العودة إلى الزمن الراهن للتزود بما يتيح صياغة تعاليم القرآن ومنطقه بشكل حي وفعال.
وختم النيفر كتابه بفصل عنونه ب "نحو اكتمال النص" عقد فيه مقارنة منهجية ومعرفية بين ما يسميه التيار الإيديولوجي والتيار التأويلي، متحمسا لهذا الأخير الذي يؤكد، بنظره، على تاريخية المنهج في مقابل "الموضوعية المطلقة" لفهم النص عند التيار الأول. كما أن تيار التأويل لا يقول بالمعنى الثابت، بل يعتبر الأزمة "أزمة معنى"، وهذا ارتباط وثيق، بنظره، بمسألة الإيمان والتدين في العالم الإسلامي؛ ذلك أن منهجية إخضاع النص القرآني لغاية استخراج التقنينات الفقهية والعقدية يفضي إلى انحسار علاقة المؤمن مع النص في حدود المجال التوظيفي فحسب؛ مما يولد ذهنية توظيفية للنص وإنتاج إيمان قصير المدى، لا يرى في تعامله مع القرآن إلا الجانب النفعي الخارجي، إيمان هذه الذهنية يقوم على الاطمئنان والترديد، في تجاوز سافر لحيرة المؤمن وتساؤلاته وتوقه إلى الارتقاء الروحي. أما المنهجية النقدية التاريخية فتعيد للوحي حيوية لغته ورموزه وطاقته الروحية والفكرية، مكرسة إيمانا يعتمد على يقين متسائل ومعتز برحابة رسالة القرآن. (ص108).
المصدر: موقع سوس درعة (موقع مغربي) ( http://soussdraa.com/modules/news/article.php?storyid=104)
¥