" فلا تزال بين ناقص يتم، وغامض يتضح، وموزع يتجمع، وخطأ يقترب من الصواب، وتخمين يترقى إِلى اليقين. ولا يندر في القواعد العلمية أن تتقوض بعد رسوخ، أو تتزعزع بعد ثبوت .. ويستأنف الباحثون تجاربهم فيها بعد أن حسبوها من الحقائق المفروغ منها عدة قرون " [28]
فلو طبقنا القرآن على هذه المسائل العلمية المتقلبة لعرضناه للتقلب معها وتحمل تبعات الخطأ فيها، وأوقفنا القرآن وأنفسنا مواقف الحرج [29]
رابعًا: إِن هذا المسلك ينطوي على معانٍ عدة لا تليق بجلال القرآن الكريم وكماله، أستأذنك في أن أنقلها لك بعبارة سيد قطب الأدبية الندية. وإِن كان في بعض ما ذكره تكرار لما سبق تقريره.
أولى تلك الأمور فيما قال: "هي الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن والقرآن تابع ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم. أو الاستدلال له من العلم. على حين أن القرآن كتاب كامل في موضوعه ونهائي في حقائقه. والعلم ما يزال في موضوعه ينقض اليوم ما أثبته بالأمس. وكل ما يصل إِليه غير نهائي ولا مطلق؛ لأنه مقيد بوسط الإِنسان وعقله وأدواته وكلها ليس من طبيعتها أن تعطي حقيقة واحدة نهائية مطلقة.
والثانية: سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته، وهي أنه حقيقة نهائية مطلقة تعالج بناء الإِنسان.
والثالثة: هي التأويل المستمر - مع التمحل والتكلف لنصوص القرآن كي نحملها ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر وكل يوم يجد فيها جديد " [30]
ويبين الشيخ محمود شلتوت جوانب الخطأ في هذا الاتجاه فيقول:
"هذه النظرة للقرآن خاطئة من غير شك لأن الله لم ينزل القرآن ليكون كتابًا يتحدث فيه إِلى الناس عن نظريات العلوم، ودقائق الفنون وأنواع المعارف وهي خاطئة من غير شك لأنها تحمل أصحابها والمغرمين بها على تأويل القرآن تأويلا متكلفًا يتنافى مع الإِعجاز ولا يسيغه الذوق السليم.
وهي خاطئة، لأنها تعرض القرآن للدوران مع مسائل العلوم في كل زمان ومكان
والعلوم لا تعرف الثبات ولا القرار الأخير، فقد يصح اليوم في نظر العلم ما يصح غدًا من الخرافات ... " [31]
خامسًا: إِن في هذا المسلك خطأ منهجيًّا لأن حقائق القرآن الكريم قطيعة نهائية بخلاف ما يصل إِليه الإِنسان من حقائق فإِنها غير قطعية ولا نهائية ففيها النقص والخطأ، فلا يصح تعليق تلك بهذه تعليق تطابق وتصديق [32].
سادسًا: إِن إِدخال التفسيرات العلمية على الإِشارات القرآنية وبالصورة التي جرى عليها بعض الكتاب والعلماء لا بد أن يفضي عما قريب أو بعيد إِلى صراع بين الدين والعلم [33]
يضاف لما سبق الرد على المجيزين لهذا المنهج والمؤيدين له في تمسكهم بظواهر بعض النصوص ك قَوْله تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [34]
وقَوْله تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [35]
ومثل فواتح السور الواردة في القرآن الكريم فهي مما لم يعهده العرب.
فقد أجاب عن هذه الاستدلالات الشاطبي في الموافقات بقوله: " فأما الآيات فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد أو المراد بالكتاب في قوله {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [36] اللوح المحفوظ ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية.
ثم قال: وأما فواتح السور فقد تكلم الناس فيها بما يقتضي أن للعرب بها عهدًا كعدد الجُمّل [37] الذي تعرّفوه من أهل الكتاب حسبما ذكره أصحاب السير.
أو هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إِلا الله تعالى. وغير ذلك.
وأما تفسيرها بما لا عهد به فلا يكون ولا يدعيه أحد ممن تقدم فلا دليل فيها على ما ادعوا.
ثم قال: فليس بجائز أن يضاف إِلى القرآن ما لا يقتضيه كما أنه لا يصح أن ينكر منه ما يقتضيه، ويجب الاقتصار في الاستعانة على فهمه على كل ما يضاف علمه إِلى العرب خاصة فبه يوصل إِلى علم ما أودع من الأحكام الشرعية، فمن طلبه بغير ما هو أداة له ضل عن فهمه وتقول على الله ورسوله فيه. والله أعلم وبه التوفيق.
بهذه العبارات ينقض الشاطبي تلك الاستدلالات ويوجهها مبينًا رأيه فيها.
تلخيص:
يمكن أن نلخص تلك الأدلة والأسباب بما يلي:
¥