ـ[العليمى المصرى]ــــــــ[11 Dec 2009, 01:06 ص]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد قص الله تبارك وتعالى علينا من خبر خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام في مواضع متفرقة من كتابه الكريم والمتأمل في تلك المواضع يرى أن هناك مسافات زمنية قد طويت في حياة الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
في سورة الأنبياء يقول تبارك وتعالى:
(قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) سورة الأنبياء (60)
الفَتى والفَتَاةُ: الشاب والشّابَّةُ،
ثم في نفس السورة وفي نفس السياق يخبرنا الله تعالى أنه نجاه إلى الأرض المباركة ووهب له إسحاق ويعقوب:
(وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72))
وفي سورة الصافات:
(قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101))
ولا شك أن البشرى جاءت متأخرة جداً عن هذا الحدث، قال تعالى:
(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55)) سورة الحجر
من خلال هذه الآيات نرى أن هناك مسافة زمنية قد تصل الستين عاما أو أكثر، الله أعلم كيف عاشها الخليل وأين عاشها.
.
اضافة الى ما ذكره الأخ البيراوى أقول:
يمكن أن نلتمس فى أقوال المؤرخين ما يلقى مزيدا من الأضواء على الفجوات الزمنية فى سيرة خليل الرحمن عليه السلام
فالمؤرخ اليهودى القديم يوسيفوس يذكر فى تاريخه أن ابراهيم عليه السلام قد ترك بلاد الكلدانيين وهو فى الخامسة والسبعين من العمر ليذهب الى كنعان بناءا على أمر الله له بذلك (وهو يوافق ما جاء فى سفر التكوين بالتوراة)
أما المؤرخ (نيقولا الدمشقى) فيذكر فى الكتاب الرابع من تاريخه أن ابراميس (ابراهيم باليونانية) قدم أولا الى دمشق من أرض بابل وأنه قضى فيها زمانا قبل أن يهجرها الى أرض كنعان
أما المؤرخ (أبو الفرج ابن العبرى) والذى كان من أعرف الناس بسيرة الخليل عليه السلام نظرا لصلته الوثيقة بالأقوام الذين تناقلوها فيما بين النهرين وما حولها فانه يضيف أنه عليه السلام بعد أن حطم هيكل الأصنام فى أرض الكلدانيين فر هاربا وعمره ستون سنة مع ابن أخيه لوط عليه السلام الى مدينة حاران، وأنه أقام فيها لمدة أربع عشرة سنة، ثم أمره الله بالهجرة الى كنعان
وبالمقابلة بين أقوال المؤرخين الثلاثة السابق ذكرهم يتضح لنا من مجمل أقوالهم أن ابراهيم عليه السلام قد ترك موطنه الأصلى وفر هاربا الى مدينة حاران وهو بعمر الستين، ثم منها الى أرض كنعان وهو فى الخامسة والسبعين، وهذا ليس بعمر فتى يناهز العشرين كما نفهم من القرآن، فأين كان ابراهيم عليه السلام طوال أربعة عقود ما بين سن العشرين الى سن الستين؟!!
تلك هى الفجوة الكبرى والحقيقية فى سيرته فيما أرى والتى سكت عنها المؤرخون، ولكن بقليل من التدبر يمكن استنباط أنه بعد أن أنجاه الله تعالى من كيد قومه له فانه لم يذهب مباشرة الى أرض كنعان (فلسطين) أو حتى الى مدينة حاران وانما الى مكان نائى عن قومه وان لم يخرج عن حدود نفس البقعة الجغرافية (العراق القديم)، ويؤيد ذلك فى نظرى ما يلى:
أولا: أن العادة قد جرت بأن الذى يفر هاربا من قومه فانه يلجأ أول ما يلجأ الى الأماكن المغمورة غير المطروقة حتى لا يسهل على أحد الامساك به أو التعرف عليه، وذلك حتى تهدأ الأمور وينسى الناس خطبه، بخلاف ما اذا قرر على الفور الخروج من البلاد الذى قد يعرضه لخطر التعرف عليه والامساك به قبل أن يبلغ مأمنه ويغادر البلاد بأسرها، وكون هذا المكان مغمورا ونائيا عن مواطن الحضارة والعمران قد يفسر لنا سبب جهل المؤرخين بهذه الفترة من سيرته عليه السلام
ثانيا: جاء فى القرآن ما يؤيد أنه عليه السلام كان يفكر فى اعتزال قومه وهجرتهم هجرة محدودة، وذلك فى قوله لأبيه:
" واعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربى عسى ألا أكون بدعاء ربى شقيا "
ثالثا (وهو الأهم فى المسألة): من المعلوم أن القرآن الكريم فى سرده للقصص يختصر الزمان اختصارا كبيرا فى كثير من الأحيان ليأتى على ذكر الأحداث الهامة الجديرة بالذكر تاركا التفاصيل الصغيرة وغير الهامة حتى وان استغرقت عشرات السنين كالتى استغرقتها حادثة اعتزال ابراهيم لقومه، وانظر كذلك على سبيل المثال كيف انتقل القرآن فى سرده لقصة موسى عليه السلام من مشهد ارجاعه الى أمه رضيعا الى مشهد بلوغه فتوة الشباب، وذلك فى الآيتين 13 و 14 من سورة القصص، وانظر كذلك كيف طوى عشر سنين من قصته فى الآيتين 28 و 29 من نفس السورة، وغير هذا وذاك نجد الكثير من الشواهد والأمثلة على هذا الاختصار للزمن والأحداث
من هذا المنطلق أجد أنه لا يوجد تعارض بين ما ذكره المؤرخون من جهة وبين ما جاء فى القرآن من أنه عليه السلام قد هاجر الى الأرض المباركة (فلسطين) بعد أن أنجاه الله من كيد قومه له
هذا والله عز وجل أعلى وأعلم
¥