جَهَد د. الديب جَهده، حتى جمع من الكتاب عشرين نسخة صوَّرها من مكتبات العالم: في القاهرة والإسكندرية وسوهاج من مصر، ودمشق وحلب من سورية، والسلطان أحمد وآيا صوفيا من تركية. ولكن لم توجد منه نسخة كاملة. وبلغ عدد مجلداتها (44)، وعدد أوراقها (10336) ونسخت بخط اليد في (14590) صفحة.
هذا، بالإضافة إلى المختصرات والنصوص المساعدة، وهي تسع نسخ، بلغ عدد مجلَّداتها (15) وعدد أوراقها (3750) تقريبًا.
ثم بدأ يقرأ النص قراءة العارف الخبير، ولكنه يقرأ نصًّا غير عاديٍّ، لرجل غير عاديٍّ، فبعض المصنَّفات تكون ترديدا لكلام السابقين، أو تكرارا وتأكيدا له، فيستطيع قارئها أن يبحث عنها فيما نقلت عنه.
أما إمام الحرمين فهو مستقلٌّ في تفكيره، مستقلٌّ في تعبيره، فيحتاج من محقِّقه إلى فَهم دقيق، وتأمُّل عميق، وصبر جميل، ومراجعة طويلة، حتى يفهم ما يريد المصنِّف.
على أن إمام الحرمين كثيرا ما يغرب في تعبيره، فيظلُّ المحقِّق يبحث طويلا في المعنى المراد، حتى يجده باليقين أو بالظنِّ. وقد يظلُّ أسابيع أو شهورا، يفتِّش عن المعنى، ويبحث عن المظانِّ، ويشاور مَن يثق به، إلى أن يشرح الله صدره لما يختار.
أضف إلى ذلك ما تعانيه المخطوطات أبدا من كلمات مطموسة، أو مخرومة، كلها أو بعضها، أو لعلها سقطت من المصنف نفسه أثناء الكتابة، كما يحدث لكلِّ مؤلف، زيادة عما يصنعه النسَّاخون بالكتب من تصحيف وتحريف، ومسخ وتغيير، وخصوصا الجهلة منهم!
زد على ذلك ما يستشهد به المصنِّف رحمه الله من أحاديث، بعضها لا يكون معروفا عند الفقهاء، وفي كتب الفقه المألوفة، بحيث نجده، في تلخيص الحبير، أو سنن البيهقي، أو غيرهما من الكتب التي هي مظان هذا اللون من الأحاديث.
ليس هيِّنًا ما قام به الدكتور الديب من تحضير وتهيئة للعمل الكبير الذي نهض له، وهو له أهل، ليخرج (النهاية) إلى النور، ويحيلها من مقبور إلى منشور.
وقد قال بعض العلماء: من نشر مخطوطة، فكأنما أحيا موءودة!. فكيف إذا كانت هي (النهاية)؟!
مدرسة متميزة في التحقيق
ينتمي الأخ الدكتور الديب إلى مدرسة في التحقيق، متميزة، شيوخها الكبار: آل شاكر: أحمد ومحمود، وعبد السلام هارون، والسيد أحمد صقر، رحمهم الله، وأمثالهم.
وهي مدرسة تُعنى بخدمة النص ذاته، وتقديمه للقارئ بيِّنا واضحا مفهوما، كما أراده مصنفه، بقدر الاستطاعة، ولا تثقل كاهل المتن المحقق بكثرة التعليقات التي لا لزوم لها، وتوسيعها بغير حاجة، كما يفعل الكثيرون.
ولقد زرت الدكتور الديب في (مخبئه العلمي) أو في (ورشة العمل) التي يزاول فيها مهنته، ويمارس تحقيقه، وهي حجرة كبيرة فيها عدة مكاتب، مجهزة بما سماه الدكتور (حافظ عصرنا) الكومبيوتر، وبالجهاز القاريء للمخطوطات، وبالمراجع المختلفة: من فقهية وحديثية ولغوية، وغيرها.
وقد قدم الدكتور الديب من قبل دراسة عن إمام الحرمين: حياته وآثاره، حصَل بها على درجة (الماجستير) من كلية دار العلوم، وأخرى عن (فقه إمام الحرمين) حصل بها على درجة (الدكتوراه) مع مرتبة الشرف، والتوصية بطباعة الرسالة وتبادلها مع الجامعات. وهذا كله ساعده على فهم إمام الحرمين، وكتابه المتميز (نهاية المطلب).
لقد قدم الدكتور عبد العظيم الديب للمكتبة الإسلامية خدمة جليلة، بتحقيق هذا الكتاب الفذ، ولا يسعنا، بل لا يسع أي مسلم يهتم بدينه وثقافته وحضارته إلا أن يشكر للدكتور الديب ما قام به من جهد وعناء طوال تلك السنين) اهـ.
مرض الشيخ بالقلب
لم يكن عبد العظيم من المرفَّهين ولا المدلَّلين، فهو ابن القرية حقًّا، الناشئ في ربوعها، الآكل من ثمارها، الشارب من لبانها، المتمتِّع بهوائها، وكان تكوينه البدني قويًّا، ولكن شاء الله تعالى أن يصيبه من أمراض العصر مرض القلب، وسافر إلى لندن لعمل عملية جراحية منذ سنوات، تمَّت بنجاح والحمد لله.
ولكنه ظلَّ تحت تأثير هذا المرض، فقلَّل من قُدرته على العمل، ومن لقائه بالناس، وما زال به حتى أصابته جلطة في رجله، دخل من أجلها المستشفى، وأُجريت له عملية، وكان قدر الله أن تكون فيها وفاته، رحمه الله.
العناية بتراث الشيخ ونشره
وأعتقد أن عبد العظيم قد ترك وراءه أشياء كثيرة جديرة أن تُنشر، سواء في باب التأليف أم في باب التحقيق، وإني لأرجو من تلميذه القطري الوفيِّ المخلص الذي كان ساعده الأيمن في تحقيقه، الأخ علي الحمادي حفظه الله: أن يحرص على كلِّ ورقة تركها، وأن ينشر ما هو جاهز للنشر منها، وأن يبحث مع بعض إخوان الشيخ على ما وصل إلى مرحلة قابلة للإتمام، للعمل على إتمامه، وفاء بحقِّ الرجل. ونرجو من جامعة قطر، ووزارة الأوقاف ووزيرها الشهم أحمد عبد الله المري، أن تساهما في ذلك بما للرجل من حقٍّ عليهما.
على طلاَّب الدراسات العليا تقديم أطروحات عن تراث الشيخ:
كما أرجو من طلاَّب العلم في جامعاتنا العربية والإسلامية: أن يتناولوا سيرته العلمية وآثاره المنشورة، بالدراسة والتحليل، في أطروحات أكاديمية للماجستير أو الدكتوراه، لتنتفع بها أجيال الأمَّة القادمة.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يغفر لأخي عبد العظيم ويرحمه، ويتقبَّله في الصالحين من عباده، ويسكنه الفردوس الأعلى، ويجزيه خير ما يجزى به العلماء العاملين، والمعلِّمين الربانيين، والدعاة الصادقين، {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ} [الأحزاب:39] وأن يرزق أهله وإخوانه وتلاميذه ومحبيه الصبر والسلوان، وأن يعوِّض الأمة فيه خيرا، وألاَّ يحرمنا من بشرى الصابرين، {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ *أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157،156].
¥