رغم أني لم أجالس أستاذنا الفقيد العلامة الدكتور عبد العظيم الديب سوى مرات تعد على رؤوس الأصابع، فقد نشأتْ بيني وبينه مودة وعلاقة حميمية أعمق وأكبر بكثير من الجلسات المعدودة التي جمعتنا، وأكثرها كان في بيته وضيافته الكريمة بالدوحة.
ولعل من أسباب هذه المودة والمحبة التي ربطت بيننا، اشتراكنا معا في محبة إمام الحرمين الجويني وتعظيمِه والتتلمذِ عليه. لقد كنت أحس وأقر في نفسي أن الدكتور عبد العظيم هو أستاذ لي، ولكن إمام الحرمين هو أستاذنا معا.
ومعلوم أن أستاذنا وفقيدنا الجليل - عليه رحمة الله وبركاته - هو أكبر من عرَّف بالجويني وتراثه ومهجه، حتى أصبحنا نعتبر أن تخصصه العلمي هو الجويني وتراثه. وفي بعض المجالس كنت أذكر الدكتور عبد العظيم الديب، فإذا وجدت من لا يعرفه أقول: هو أمينُ سِرِّ إمام الحرمين.
على أن من الإنصاف للرجل أن أقول: إن محبتي له تأتي أيضا من كونه يغمر الجميع بمحبته وأدبه ولطفه ورِقَّته، فلا يسع أحدا لقيه وعرفه إلا أن يحبه.
ومن إنصافه أيضا أن أقول: إن تخصصه وتفانيه في خدمة تراث الجويني لا ينبغي أن يحجب عنا اهتماماته وعطاءاته العلمية المتنوعة، ومن أهمها اهتماماته وتحقيقاته الفذة في ميدان التاريخ الإسلامي. لقد كان صاحب حفريات وتحقيقات ونظريات متميزة في كثير من قضايا تاريخنا. ولقد كنت أخشى أن يقع ما قد وقع، فيسترسل في بحوثه ودراساته هذه - بصبره وتأنيه وطول نفَسه - دون أن يتمكن من إخراجها للناس. ولذلك لما حدثني ببعض ذلك - في زيارتي له، الأخيرة أو ما قبل الأخيرة – حاولت إقناعه بأن يُخرج من ذلك ما هو متيسر وجاهز لديه بأي شكل من الأشكال، حتى قلت له: ولو أن تطلع علينا في برنامج الشريعة والحياة بقناة الجزيرة، فتعرفنا بأهم نتائج بحوثك وآرائك في هذا الموضوع، ولكنه لم يفعل. لقد كنت متعجلا كعادتي، وكان هو متأنيا كعادته. فالرجل الذي بقي في تحقيق كتاب (نهاية المطلب في دراية المذهب) للجويني ما يقرب من ثلاثين سنة، لم يكن لتهزه عجلتي وشوقي ...
ولقد كنت قبل ذلك أتخوف على كتاب (نهاية المطلب في دراية المذهب) ألا يتمه ولا يخرجه، وكانت تمر السنوات، ثم أسأله وأستعجله وألح عليه، فيحدثني عن مشاكل تلو أخرى وعوائق تلو أخرى، وأنه قد تجاوز هذه وهو يعالج تلك ... وهكذا إلى أن مَنَّ الله علينا وعليه بصدور هذا الكتاب الموسوعة.
وحينما صدر هذا السِّفر العظيم اتصلت ببعض تلاميذ الدكتور عبد العظيم، واقترحت عليهم أن ينظموا في قَطر احتفالا خاصا بصدور هذا الكتاب. وأظن أنهم قد فعلوا.
وأما هنا بجدة، فحينما اقتنينا الكتاب اقترحت على مديرنا في (مشروع معلمة القواعد الفقهية) أن نقوم باستخراج قواعده لضمها إلى قواعد المشروع، مع أن مرحلة التنقيب والاستخراج كانت قد مضت وانتهت، ودخل المشروع في مرحلة الصياغة والتحرير. فلم يتردد الدكتور جمال الدين عطية في الترحيب بالفكرة. ولكن نظرا لضخامة الكتاب فقد اقترح الدكتور عطية أن توزع مجلداته على عدد من الباحثين، فعرضت عليه أن أقوم أنا وحدي بهذا العمل، بشرط أن أتفرغ له شهرا كاملا، فقال لي: خذ ما يكفيك.
وهكذا كان لي شرف القراءة والتصفح لكل مجلدات الكتاب، في شهر ونصف، واستخرجت منه أزيد من ثلاثمائة من القواعد الفقهية والأصولية. وقد أرسلت نسخة منها إلى فضيلة أستاذنا الدكتور عبد العظيم الديب، ليطلع عليها ويعدل فيها ويضيف إليها، ثم يضمها إلى فهارس الكتاب في طبعته المقبلة، إذا رأى ذلك. ولكن عفته وأمانته جعلته يصر علي أن يكون ذلك باسمي، وأن أعطيه موافقة خطية بذلك، فلبيت رغبته ...
فاللهم يا أرحم الراحمين اجعله عندك في عبادك المخلَصين، مع الأبرار الصالحين، والمجاهدين الصادقين، في أعلى عليين آمين.