عالِمًا مثل الدكتور الديب يزهد في الأضواء، ويرغب عن الحركة، ويعكف بين المخطوطات لما خرج للأمة والعالَم كتب الجويني: "الغياثي والبرهان ونهاية المطلب"، ويوقف حياته لإخراج هذه الكنوز الثمينة.
عشت مع أستاذي من خلال الغياثي أولاً، والبرهان ثانيًا، أدعو له وإن كنت لا أعلم من هو؟ وأقول كيف كان الشيخ مسددًا أن يُخرج كتب الجويني في وقت صارت الأمة عامة وعلماؤها خاصة أحوج ما تكون لفكر الجويني الذي تميز بالواقعية والجمع بين اللغة الأدبية والدقة الفقهية، إذ يفترض دائما أن تكون لغة الفقه دقيقة لا أدبية حتى لا تتسع أو تضيق عن الحقيقة الفقهية، لكن أبا المعالي الجويني كان بارعًا في الجمع بين الأمرين مما يجعل عملية التحقيق أشق وأصعب، وخاض المفازة الفارس العلمي والصبور الأصولي، وبلغ المقصد، ووفى بما لم يسبق، وأدى بما أرجو أن يكون به في سدرة المنتهى من الفردوس الأعلى.
ظلت العلاقة تنمو مع الشيخ من بعيد من خلال الغياثي والبرهان حتى كان أول لقاء مع شيخي في موقف لن أنساه لأن الشيخ ارتقى من منزلة العالم المحقق إلى المربي المدقق حيث دُعيت لإلقاء محاضرة في كلية الشريعة - جامعة قطر، وتحدثُت عرضًا عن الجويني وكتابه الغياثي وأوردت بعض نصوصه شفويًا وأثنيت على المحقق د. الديب وأنا لا أدري أن العالم المتواضع جالس يستمع للمحاضرة، فوجدت شيخًا وقورًا يقف ويقول: "لقد عشت سنوات مع كتاب الغياثي وحققته لكني أشهد أن د. صلاح أحفظ له مني" وهنا شعرت بالخجل الشديد، وتركت مكبر الصوت والمنصة، وهرعت نحو شيخنا وقبَّلتُ يده احترامًا ورأسه إجلالاً، وأيقنت أن شيخنا تجرد من أهواء نفسه ليضع تلميذه في هذه المنزلة، وهو أمر ليس قليلا فقط بل نادرًا، وإن كنت على يقين أني لا أساوي غَرفة من بحر علمه، ثم تعمقت المودة بيننا أكثر عندما زرته في لندن أثناء مرضه وجراحته الكبيرة في القلب، ولما خرج من المستشفى كنت معه في حفل غداء فرحا بسلامته مع عدد من العلماء والناشطين في العمل الإسلامي ببريطانيا، ويومها اكتشفت في الشيخ الفقيه الأصولي بُعدًا جديدًا، وهو أنه المؤرخ الذي يروي أحداث التاريخ موثقة باليوم والسنة خاصة عن الغزو المغولي للعراق والشام سنة 656هـ وكيف عادت الأمة لرشدها واستعادت قوتها لتحرِّر الشام والعراق، وتقتل هولاكو قائد المغول في موقعة "عين جالوت" بعد عامين فقط على قدومه، بينما دخل آخرون في الإسلام من المغول وعادوا ينشرون الإسلام في شرق آسيا، وربط ذلك بغزو أمريكا للعراق، وأن الأمة ولود؛ وسوف يُخرج الله من رجال وعلماء الأمة من يَرُدَّ الأمريكان مهزومين مدحورين، وكان يجمع في حديثه بين دقة الرواية وعمق الدراية، وجودة الربط بالواقع وبعث الأمل، وكل هذا حوَّل الغداء المبارك إلى غذاء للقلب والعقل معا.
زادت العلاقة بيني وبين شيخي - رغم تقصيري- عندما كنت أفاجأ به في حلقات خاصة يحضر بين الشباب كواحد منهم، وأتوقف عن المحاضرة التي دعيت لها لكنه كان يصرُّ بقوة وإباء، وكان أحب لقاء مطول في ملتقى "القرضاوي بين التلاميذ والأصحاب" وامتلأ حديثى مع شيخنا بالحمية والحميمية، الحماس والحب لقضايا الأمة، وكانت له استدراكات على مسيرتنا الإسلامية عامة، وفاض ببعضها في غداء عقد ببيت العلامة الشيخ الدكتور عبد الستار عبد المعز في آخر لقاء جمعني بشيخي الجليل د. الديب، وحضور صديقه الحميم علاَّمة العصر وفقيه الأمة شيخنا القرضاوي الذي لم أجده باكيًا على فقد أحد كما وجدته في اتصالي أقدم العزاء وإن كنت أحوج لتلقيه.
ولم أجد كلمات أرق مما كتب الشيخ القرضاوي عن راحلنا إلى دار الخلود - بإذن الله - الدكتور عبد العظيم الديب حيث افتتحها بقوله
أفي كلِّ حين لي حبيب أودِّع؟ فلا أنا أقفوه ولا هو يرجع
رحم الله شيخنا الدكتور الديب، وبارك في أعمار علمائنا الربانيين، وجعلنا الله خير خلَف لخير سلف، كما قال الشاعر:
إذا سيد منا خلا، قام سيد قؤول لما قال الكرام فعول
ـ[أبو الخير صلاح كرنبه]ــــــــ[29 Jan 2010, 04:07 م]ـ
إنا لله وإنا إليه راجعون
تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته
ـ[يسري خضر]ــــــــ[28 Mar 2010, 11:47 م]ـ
العلامة عبد العظيم الديب كما عرفته - بقلم أحمد الريسوني
¥