تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[د. عبدالرحمن الصالح]ــــــــ[26 Feb 2010, 10:10 م]ـ

شكراً للأخ خلوصي على هذا الموضوع القيم ويطيب لي أن أضيف تعليقا في هامشه

ما أعلم من أنكر الكرامات جملةً وتفصيلاً من أهل السنة سوى العلامة أبي محمد عليّ بن أحمد بن حزم رحمه الله تعالى، وقد أثر موقفه في جميع من جاء بعده من أهل الأندلس فتراهم لا يكادون يقبلون خرقا لقوانين الطبيعة، وكان أبو محمد بن حزم يؤمن بما آمن بعده العلم الحديث من أن "الله تعالى قد برمج الأشياء لتسير على قوانين محكمة عرفها من عرفها وجهلها من جهلها" أو بتعبير الفيلسوف الإنكليزي جون ستيوارت مل "إنّ جميع الظواهر على الإطلاق خاضعةٌ لقوانين غير قابلة للتخلف ولا تقف في وجهها إرادة ما طبيعية وغير طبيعية". ولا يوجد إنسان إلا وهو متردد في قبول خبر أن يشاء الله تعالى أن يخرق قوانين الطبيعة التي قدرها في سابق علمه من أجل إنسان ما، وهو الذي شاء أن يقتل شرار الخلق خيارهم وروى لنا استنكاره على بني إسرائيل قتلهم الأنبياء وقال لنا "ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار".

وما أظن ما أصبح يُنسب إلى أهل السنة إلا من تسربات الفكر الهرمسي الفارسي الذي يبدأ باغتيال العقل وتقديم الإيمان بثوابته على كل معقول، ثم بعد ذلك يشرعون يوظفون كل ما تقع عليه أيديهم من دليل لعقلنة لا معقولهم حتى قال فيهم الشاعر

مينٌ يُرَدُّ لم يَرْضَوا بباطله * حتى أبانوا إلى تصديقه طُرُقا

فالفرس يعتقدون أن الله قد ادخر لهم "رئيس جمهورية" محتفطا لهم به في السماء، ويتصل به "مراجعهم" وينقلون لهم رأي السماء في أمور الأرض. وقد اختُرق أهل السنة عبر الصوفية الذين تتلمذ بعضهم على الباطنية والإسماعيلية فتسرب اللامعقول الهرمسي الذي فتك بالإمامية إلى "أهل السنة".

وما أظن الموقف من الكرامات في العصور المتأخرة إلا متأثرا بهذه الهرمسيات.

وأما موقف الفلسفة فإنها لا تفرق بين كرامة ومعجزة، إذ التفريق من مصطلحات متكلمي العصور المتأخرة. لأن المتكلمين من المعتزلة حتى القرن الرابع كانوا مصفقين على إنكار أي خرق لنواميس الكون التي سماها الغزالي والأشعرية بـ"العادة"، وسموا قوانين الطبيعة الثابتة "مستقرّ العادة" ليوحوا بإمكانية خرقها متى شاء الله، وكان غرضهم والحق يقال إثبات المعجزات لكن الناس قد وظفوا الحجج نفسها قي إثبات الكرامات. وكان نكير المتكلمين من المعتزلة لغير معجزات الأنبياء فنجد الجاحظ يروي قول أبي الغول الطهوي

رأيت الغول تهوي جنح ليلٍ

يقول. وهو كما ترى يكذب ويطيل الكذب ويحبّره.

ولا بُدّ لنا هنا من الإشارة إلى أنّ المعرفة العلمية منذ قفزت من الحواس المجردة إلى الحواس المكبّرة بالآلة في القرن السابع عشر الميلادي، وأصبحت تعزز نفسها بكثرة الأشياء التي وقعت تحت رصدها / وهي أشياء متناهية في الصغر (بواسطة المجهر) والكبر (بواسطة المرقب)، هذه المعرفة العلمية بشكلها الحاضر لا تدّعي أنها المعرفة الوحيدة الممكنة، فقد توجد معارف خاصة لا يمكن تعميمها، لكن المعرفة العلمية هي الوحيدة التي تعتمد جماعية العقل، وأن كل حقائقها قابلة للتعلم في زمن يطول ويقصر بحسب تدرج رتب المعارف والحقائق، وعليه فإن الكرامات وقبلها المعجزات هي من "خاصّ " العلوم والمعارف، لا يمكن إدراكها بالتعلم الطبيعي وبسبل نيل المعرفة العلمية، ولذلك فهي بهذا المعنى خارج المعرفة العلمية لكن هذا لا يعني بالضرورة إنكارها، بل فقط هي تعود إلى معارف أخرى خاصة.

ولذلك يكون الموقف من الكرامات موقفاً خاصا يقبله من يقبله ويرفضه من يرفضه.

والدليل (من داخل المعرفة العلمية) على وجود معارف خاصة وجود خروقات لقوانين الطبيعة مما يسمى بـ (ـالباراسايكولوجيا) وسائر خروقات الطبيعة التي لا علاقة لها بالدين فما الذي يمنع من حصول مثل ذلك لشخص متدين؟

لكن يبقى عدم الاهتمام بها أعني بالكرامات، وعدم الحديث عنها أسلم وأنفع للعقل المسلم لأنها مما لا بعود بنفع على الإسلام والمسلمين بشيء.

ويعجبني موقف أبي محمد ابن حزم رحمه الله وهو من هو علماً وديناً.

وبصدد مصدر معلوماتنا عن هذه القضية فإنه لا يصلح إلا الاسترشاد بمسيرة العقل والعلم في القرون الأربعة الأخيرة أعني منذ أن اعتمد غاليلو على الزجاج فتجاوز العلم اليوناني ونشأ "العقل الحديث". فتجاوز الإنسان في الطبيعة بحواسه المجردة. إذ لولا الزجاج لما اكتشف باستور الجراثيم وعرف الطبّ سبب العدوى! فأصبح عمالقة الأطباء قبله أقزاما. وهذا راسل يقول "إنّ لديّ كتب أرسطو في الطبيعيات والتي كانت إنجيل العلم لمدة ألفي سنة، لم يعد فيها حرف صحيح بمنظور العلم المعاصر". فالعقل الإنساني واحد. وما أقول هذا القول إلا لأقرر أن ما ينسبه علماء القرون المتأخرة إلى أهل السنة لا يعني بالضرورة أنه رأي الإسلام.

لكننا لا نشك في أن المخلص لله لا يعيش عيشة ضنكا بل ينام قرير العين هانيها وله سعادة الدارين. وهذا هو معنى قوله تعالى من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة. إذ المعنى الخفي لهذه الآية أي فعليه أن يلجأ إلى الله لينال ثواب الدنيا والآخرة.

وما دام الحديث عن شيخ الإسلام رحمه الله وهو خاتمة المحققين ومجدد أصول الدين والعلم الشرعي فإن في العودة إليه والبداية من حيث ما انتهى إليه دليلا على صدق النهج وسعادة التوفيق. أما محاولة من حاول أن يتجاوزه ويتطرف في تصديق ظواهر أحاديث الآحاد وما نسب إلى المعصوم من مرويات فعما قليل سوف يبين عواره حين يزول عنه جعجعته وغباره.

فقد وجدناه مجتهدا مطلقا لا يخاف في الله لومة لائم، أعاد الناس إلى الصواب فيما لا يُحصى من المسائل.

رحمه الله تعالى رحمة واسعة ووفقنا للسير على نهجه واقتفاء أثره

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير