تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إن الحضور الفعّال للبُعْد التساؤلي في حسِّ الفرد يُعدّ من أهمِّ الشروط اللازمة لتفتيح ملكاته الفطرية ونموّ كينونته المعرفية وتكوين نظرته الشمولية. ولذا؛ فإن تطلّع الفرد إلى استكناه المجهول وإيراده للتساؤلات الهادفة ـ التي تطرح أبعاداً غائبة لم تُمنح ما تستحقه من عناية ـ وتشوّفه إلى معرفة الخيوط التي نُسج منها الواقع، وبحثه عن إجابات تمكّنه من فرز التباسات الآني المعقد وتبيّن تشابكاته وتداعياته ومن ثم تحسس المسارات الآمنة ينمّ عن عمق في الوعي، واستنارة في العقل، وتحسّن في مستوى الإدراك، وانعتاق من قيود النمطية والتقليد، وثمّة بَوْنٌ ذهني لصالحه يكشف المساحة الشاسعة بينه وبين الأذهان الببغاوية التي لا تتقن سوى التقليد والمسكونة بكافة ضروب البلادة والتسطح لما تنطوي عليه من افتقار مطلق للبعد العقلاني المرتكز على العلم الموسوعي والتفكير الإبداعي الجادّ، والذي توفّره مربوط إلى حدٍّ كبير بوجود التساؤلات بكثافتها الكمِّية من ناحية، وبطبيعتها النوعية من ناحية أخرى، وقديماً أجاب ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عندما سُئل عن السرّ الكامن خلف ما يتوفر عليه من رصيد علمي هائل بقوله: ( .. بقلب عقول ولسان سؤول).

إذاً؛ فثقافة التساؤل من حيث المبدأ هي ثقافة ينبغي تفعيلها وإشاعتها، ولكن ثمَّة ملحظ يجب استحضاره في هذا السياق، مؤدّاه أن الأسئلة تتباين باعتبار طبيعتها الماهية، فثمَّة أسئلة لها عوائد إيجابية وثمَّة استفهامات لها مردودها المكتظّ بالسلبية، كما هو الحال في الاستفسارات ذات النزعة الفلسفية المتمحورة حول ذات الخالق ـ جلَّ وعلا ـ وأسمائه وصفاته وأفعاله.

إن ثمَّة أموراً يجب أن يقف عندها العقل موقف التسليم والخضوع أُشير إلى جزء منها على نحو مجمل كما يلي:

أولاً: القدر، فهو سرّ الله في خلقه، والرب ـ تبارك وتعالى ـ يعلم الأصلح للخلق الذين لم يتعبَّدوا بالبحث عنه، وإنما تعبَّدوا بالرضى الوجداني والتسليم المطلق والامتثال اللامشروط، ولقد كان سلفنا الأوائل نموذجاً مثالياً يجدر الاحتذاء به في هذا الشأن، وكانت مواقفهم حازمة إزاء من يتمادى في إثارة الأسئلة والإشكالات في القدر، كما نرى في موقف الفاروق عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ تجاه بعض أهل الذمة؛ كـ (قسطنطين) الذي سلَّم مفاتيح بيت المقدس لعمر ـ رضي الله عنه ـ وقد أفصح عن شعور يخالجه بالاعتراض على القدر، فتوعّده عمر ـ رضي الله عنه ـ حتى فاء إلى الحق. وكذلك قصة ذلك الشاب الذي أفرط في التفاعل مع الخواطر العارضة التي ترد على ذهنه، فجاء به والده إلى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فزوّده بجرعات تعليمية حتى آبَ إلى النهج السوي، وكذلك أيضاً قصة (صبيغ التميمي) وهي مشهورة في هذا السياق.

ثانياً: الغيبيات عموماً سواء منها ما يتعلق بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله بكيفياتها، أو ما يتعلق بأخبار الغيب الأخرى كأحوال الآخرة أو عالم الشهادة الذي ليس بمقدور مداركنا تناوله، فهذا كله يجب الكف عنه وتجنّب البحث في تفاصيله.

ثالثاً: بعض حِكَم التشريع؛ لأن حِكَم التشريع متباينة، فثمَّة جملة منها قد يُدرك من قِبَل عامة الناس، وجزء آخر قد لا يدركه إلا العلماء، وهناك جزء يختص الخالق ـ جلَّ وعلا ـ بمعرفته، وهو سرٌّ من أسراره الخفية المغيبة عن البشر.

إن الإفراط في طرح المزيد من التساؤلات سلوك له إفرازاته السلبية؛ لأن للسؤال قدرة هائلة على التشعب والتكاثر والسير في كل اتجاه، فالسؤال السابق يفضي إلى السؤال اللاحق الذي بدوره يستدعي إجابة تكتظ بمواطن الأسئلة اللامتناهية، وهكذا تتواصل الأسئلة على نحو توالدي يعي العقل ويرفعه إلى مشارف الهاوية، فتتنازعه مشاعر متناقضة تعصف به وتحيطه بدائرة من الكآبة المقلقة والتوترات النفسية المرشحة للتفاقم والاستفحال.

إن ضغط الأسئلة اللامشروعة على الطاقة الذهنية هو في حقيقته ليس إعمالاً للعقل بقدر ما هو إهمال له وشرعة لاغتياله. تفعيل العقل يكمن في عقلنته بالدلالات المضمونية للنصوص الشرعية، لا بالقفز على هذا البُعْد الشرعي بالاعتماد على الرُّؤى المشوَّهة والطرح المُرْبك للوعي الإنساني.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير