تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إن الذي أوجد العقل حدّد له دائرة عمله، ووضع له الأُطر التي يجب أن لا يتجاوزها، وجعل منه قاعدة ينطلق منها الفرد في وعيه عن الله وأحكامه ومراده ومرامي تشريعاته، وهو بتآزره مع النص يشكل تصورات الفرد لأهداف الحياة والغاية من الوجود الإنساني.

لقد ضلَّت طوائف شتَّى بفعل جهلهم بطبيعة العقل البشري وخصائصه وحدوده، وإقحامه في غير ميدانه، كما نلحظ ذلك جليّاً عند الفلاسفة، حيث أنفقوا طاقاتهم العقلية في سبيل أن يدرك المحدودُ غيرَ المحدود، فتاهوا في محيط من الجدل المتناقض الذي لا يركن إلى قرار، وقالوا: إن وجود الخالق وجود مطلق بشرط الإطلاق، فجرّدوه من الوجود الذاتي، وحصروه في الوجود الذهني الذي لا حقيقة له في الخارج، والمعتزلة قدّسوا العقل وجعلوا النص يدور في فلكه، فأدَّى بهم ذلك إلى القول بخلق القرآن، وقال بعضهم: بمنع التسلسل في صفات الخالق جلَّ شأنه، وأوجبوا عليه فعل الأصلح، والصوفية بفعل انحسار دور النص قالوا: بوحدة الوجود، واعتمد بعضهم على (حدّثني قلبي عن ربي)، والجهمية منحوا العقل مكانة لم يُؤهل لها، ونقلوا قدراته من النسبي إلى المطلق، فقالوا: بنفي النقيضين عن الله، ومنهم من قال: بالحلول، ومنهم من قال: بالاتحاد، وجملة منهم حصروا الإيمان بالمعرفة المجردة فحسب، والقدرية جعلوا للعقل الهيمنة الكاملة والمرجعية المطلقة، فقالوا: بأن العبد خالق أفعاله وأن الله لم يقدّرها، والمرجئة جعلوا السيادة للعقل وعملوا على إقصاء النقل فقالوا: بنفي الكفر عمن تلبّس به والتاث بسلوكياته.

والثنوية ألّهوا العقل وخرجوا به عن الدائرة التي يملك فيها أسباب التصور والإدراك والحكم، فقالوا: بوجود خالقين لهذا العالم، والخوارج وسّعوا دائرة صلاحيات العقل وأَعْلوا من وظائفه فرَمَوا بالكفر من هو منه بَراءٌ، وسلكوا منهج العنف ذي الطابع الراديكالي، والدهرية جعلوا العقل هو الصانع المنتج للوعي والمحدد لإطاره فأنكروا وجود الخالق جلَّ في علاه، والأشاعرة والماتريدية جعلوا العقل هو الركيزة الأساسية التي يصدرون عنها، فقالوا: بظنّية الدلالات الشرعية ويقينية القواطع العقلية، ووصفوا الخالق بالنقص عندما قالوا بعدم ظهور آثار أسماء الخالق وصفاته إلا بعد أن خلق هذا العالم المنظور، والقرآنيون أطلقوا العنان للعقل فذبلت في حسّهم مدلولات النص القرآني وأبعاده الحقيقية فأفضى بهم ذلك إلى تهميش السُّنة وحجب أبعادها الدلالية الملزمة، وهكذا تيارات متعددة تاهتْ عن الطريق الفطري الميسر بفعل تجاوزها لحدود الإدراك الإنساني ولإنفاقها للطاقة العقلية سفهاً في غير مجالها المأمون.

إن الحقيقة التي لا تقبل الجدل أنه ليس ثمَّة تعارض بين العقل الصريح الخالي من الشبهات والنقل الصحيح، بل التوافق بينهما هو الحقيقة الجلية التي لا تخطئها عينُ منصف، والشريعة لا تأتي بمحالات العقول بل بمحاراتها، وتأمَّل معي هذا الكلام القيم لابن تيمية في كتابه الموسوم بـ (درء تعارض العقل والنقل) ـ هذا السِّفر الذي يُعدّ عملاً علمياً فذّاً لا يضارعه إلا القلة النادرة ـ حيث يقول: «إن كل ما عارض الشرع من العقليات فالعقل يعلم فساده وإن لم يعارض العقل وما علم فساده بالعقل لا يجوز أن يعارض به لا عقل ولا شرع» 1/ 194، إذاً؛ فتوهّم التعارض بين العقل والنص الصحيح آية على ارتباك العقل وفساده. ويقول في موضع آخر من درء التعارض: «إن النصوص الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعارضها قط صريح معقول، فضلاً عن أن يكون مقدماً عليها، وإنما الذي يعارضها شُبَهٌ وخيالات مبناها على معانٍ متشابهة وألفاظ مجملة، فمتى وقع الاستفسار والبيان ظهر أن ما عارضها شُبَهٌ سفسطائية لا براهين عقلية» 1/ 155، 156، ويقول أيضاً في الدّرء: «والمقصود هنا التنبيه على أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق الموافق لصريح المعقول» 3/ 87.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير