تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وشيء آخر ينبغي أن يوضع موضع الاعتبار، وهو أن الشباب والضعفاء وهم أسرع الناس إلى قبول الدعوات الجديدة، وذلك مما يدعو الشيوخ والسادة والكبراء إلى رفضها أو التوقف والتردد في قبولها على الأقل، بل يدعوهم إلى الاستخفاف بها ومقابلتها بمثل ما قابل به قوم نوح دعوة نبيهم حين قالوا: "وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ" (هود: من الآية27)، وحين قالوا: "أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ" (الشعراء: من الآية111).

وقد حكى القرآن الكريم عن المكابرين من الكفار قولهم حين دعوا إلى الإسلام: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ" (البقرة: من الآية13).

ثم إن أتباع الدعوة يختلفون في طبائعهم وفي ثقافاتهم، وينتج عن ذلك اختلافهم في فهم الدعوة وفي تطبيقها، وقد يشوب هذا الفهم والتطبيق عند البدو الذين يغلب على طبائعهم العنف والجفاء بعض الانحراف أو الأخطاء، وذلك ما لا يمكن نسبته إلى الدعوة نفسها أو إلى صاحبها، فما من دعوة إلا قد ابتليت بمن يسيء فهمها وتطبيقها، والإسلام نفسه لا يخلو من ذلك، ولكنا لا نحكم على الإسلام بسوء فهم بعض المسلمين أو سوء تصرفهم.

أما لب الدعوة وحقيقتها فهي ثابتة واضحة فيما تركه صاحب الدعوة من كتب ومن رسائل، وهذه الكتب والرسائل هي التي يحتكم إليها ولا يحتكم إلى سواها في معرفة حقيقة الدعوة مجردة من المبالغات ومن ردود الأفعال، وقد ترك صاحب الدعوة مجموعة من الرسائل التي بعث بها إلى الزعماء والعلماء من أهل عصره يبصرهم بحقيقة دعوته ويرد على ما أثير حولها من تهم وشبهات وما أشاعه خصومها من اعتراضات، وهذه الرسائل تقدم صورة واضحة لفساد الحال في المجتمع النجدي الذي نزل به الجهل إلى تقديس الحجر والشجر والقعود عن الأخذ بالأسباب حين استبدلوا به التعلق بأوهام لا تمت إلى الدين بسبب، مع ارتداد الحياة إلى الجاهلية الأولى في البغي والظلم والنهب والسلب والسطو على الأموال والأعراض وقطع الطريق على حجاج بيت الله، ثم إن هذه الرسائل تقدم إلى جانب ذلك صورة واضحة لحقيقة الدعوة بما نفته عن نفسها من تهم أعدائها، الذين يزعمون أن صاحبها مبتدع يدعي الاجتهاد ويبطل كتب المذاهب الأربعة، وأنه يعم بالكفر من ليس على مذهبه من المسلمين، ويكفر من لم يهاجر إليه ممن يرى رأيه ويستبيح قتاله، وأنه ينكر شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينهى عن الصلاة عليه، ويُعَد الرحلة لزيارته شركاً، وينكر على المسلمين توقير أهل بيته، ويقول: إنه لو يقدر على هدم القبة التي فوق مسجده لهدمها، وأنه لو يقدر على الكعبة لخلع ميزابها الذهبي، وجعل لها ميزاباً من خشب، وأنه يسب الصالحين وينكر ولايتهم وكراماتهم.

ورسائل محمد بن عبد الوهاب ومناظرته لأهل الحجاز في اجتماع رسله بعلمائهم كما وردت في تاريخ ابن غنام معاصر محمد بن عبد الوهاب تكذب ذلك كله، وتقرر أنه متبع غير مبتدع على مذهب أحمد بن حنبل لا يدّعي الاجتهاد، يقر بشفاعة رسول الله ويصلي عليه كما أمر الله في كتابه، ولا ينهى عن الرحلة إلى مسجده، ولا ينكر كرامات الأولياء، ولا ينهى عن توقيرهم وعن توقير أهل بيت رسول الله؛ ولكنه ينكر ما يفعله الجهال من سؤالهم جلب النفع ودفع الضر، ومن نذر النذور والذبائح لهم، وينكر ابتداعات المبتدعين، وينصح من قبل نصحيته من إخوانه ألا يصير في قلب أحدهم شيء من الأدعية والأوراد يظن أن قراءته أجل من قراءة القرآن أو تعدلها.

ذلك إلى أن دعوة محمد بن عبد الوهاب قد أسيء فهمها في بعض الأحيان من الخصوم والأولياء على السواء، ومن أبرز ما أسيء فهمها فيه عداوتها للصوفية، التي بدت عند بعض أتباعها والمتأثرين بها كأنها مقصد من أهم مقاصدها.

والواقع أن الصوفية لم تكن مستهدفة لذاتها، ولكن الذي استهدفته الدعوة هو انحرافات التصوف لا التصوف نفسه، الذي يقوم في لبه وأصله الأول على الزهد وعلى مغالبة الشهوات، فمهاجمة التصوف مسألة فرعية جاءت ضمن محاربة ابتداعات المبتدعة فيما يعارض التوحيد، ولم تهاجم إلا في هذه الحدود.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير