ـ[أبوالأنوار دحيه]ــــــــ[04 - 11 - 2009, 02:05 ص]ـ
أعجبت بالفكرة وتتبّعتها من بدايتها، وككل ما نقول، نجد الغثّ والسمين، والذي يكاد يجمع عليه الناس هوأنّ الحكمة أو المثل أكثر ما نجدهما في الشعر، وفي الأثر:"إنّ من الشعر لحكمة، ولأنّي لا أقوى على تقديم مثل ما لم أقدّم بين يديه شيئا، وأرى ما إذا كان في واقعنا ما يلائمه. ها أنذا أعرض بضاعتي وأخشى أن تكون كاسدة, ولكن ...
كان الشعر ديوان العرب , فيه مآثرهم وأخلاقهم وأحداثهم, وفيه خلجات القلوب, ونفحات الزهو, ونفثات الحزن, ونفخات الغضب.
ومن الشعر عيون غدت أمثالا أو ما شابه الأمثال لكثرة ما تردّدت على الألسنة. أريد في هذه الحلقات أن أتسقّطها من مظانّها , فأذكر بشيء من الإيجاز قائلها, ومناسبتها, وقد أجد لها أكثر من مناسبة. وقد تنطبق على حال من أحوالنا؛ وما أكثر ذلك؛ فأتعرّض لذلك, والذي آمله أن يتكوّن عند ناشئتنا ذوق أدبي يميّزون به بين غثّ الكلام وسمينه.
قد يكون البيت لشاعر مغمور لا يعرفه إلاّ أبناء قبيلته, وتأتي المناسبة فيضرب به المثل, ويسأل عن قائله وعن القصيد الذي تضمّنه, فيجلّى صاحبه. وما أكثر ما يتمثّل الناس بأبيات لا يُعرَف قائلوها.
قال العرجي:
أَضَاعُونِي وَأًيَّ فَتًى أَضَاعُوا لِيَوْمِ كَرِيهَةٍ وسِدَادِ ثَغْرِ
وَصَبْرٍ عِنْدَ مُعْتَرَكِ الْمَنَايَا وَقَدْ شَرَعَتْ أَسِنّتَها بِنَحْري
أُجَرَّرُ في الْجَوَامِعِ كُلَّ يَوْمٍ فَيَا لَلَّهِ مَظْلَمَتي وَصَبْري
كَأَنّْي لَمْ أَكُنْ فيهِم وَسيطًأ وَلَمْ تَكُ نِسْبَتي في آلِ عَمْرو
وسمّي العرجي لأنّه سكن عرج الطائف، وأمّا اسمه فهو: عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفّان. وكان شاعرا غزلا نحا في شعره نحو عمر بن أبي ربيعة فأجاد، ومن جيّد ما تمثّل به الجاحظ من شعره قوله في النسيب:
تَشَرَّبَ قَلْبي حبَّها فَمَشى بِهِ تَمَشِّي حُمَيَّأ الكَاْسِ في جِسْمِ شارِبِ
وَدَبَّ هَواها في عِظامِيَ كُلِّها كَما دَبَّ في المَلْسوعِ سُمُّ العَقارِبِ
وممّا أورده صاحب الأغاني أنّ العرجي باع أموالا عظاما كانت له، وأطعم ثمنها في سبيل الله حتى نفد ذلك كلّه، وكان قد اتخذ غلامين، فإذا كان الليل نصب قدره، وقام عليها الغلامان يوقدان، فإذا نام واحد قام الآخر، فلا يزالان كذلك حتى يصبحا، يقول: لعلّ طارقا يطرق.
مات في السجن , وذلك أنّه شبّب بجيداء أمّ محمد بن هشام بن إسماعيل المخزومي، وكان ينسب بها ليفضح ابنها، لا لمحبّة كانت بينهما. وقد قال الأبيات آنفة الذكر في سجنه، والبيت الأوّل منها هو الذي غدا مثلا.
ومما تذكره كتب السير أنّ العرجي أبلى بلاء حسنا في حرب المسلمين مع الكافرين. ويروى أنّه كان من الرماة المشهورين.
ولمّا رأى نفسه في مضيعة بالسجن , لا يؤبه بهّ, ولا يسأل عنه, وهو الحسيب الذي ينتهي نسبه إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفّان رضي الله عنه، ولم تشفع له نسبته ولا بلاؤه , ولا كرمه، قال ما قال. وكذا يقول كلّ من ابتلي بما ابتلي به العرجي.