وهو يعترف بأن شعره ليس كله مع الله، وكان يتهيَّب ذلك ويتساءل: "فكيف أقدم نفسي للناس بهذا الإطار السامي".
ولا يفوتنا أن نعرض شيئاً مما قاله الأميري في قصيدة "شعري" عسى أن نطلع على مفهومه للشعر أو على الأقل أن نعرف كيف ينظر إلى الشعر وكيف يتعامل معه:
أيها القارئون رفقاً بشعري
إن شعري مشاعر منظومة
إنه سبحة إلى الله عبر النور
في جو قدسه معصومة
إنه أنة من الصدر حرى
وأسى من حشاشة مكلومة
إنه ثورة على كل بغي
وانتصار لأمة مظلومة
إنه وقدة الغريزة في جسمي
وفيض من نزوة مكتومة
إنه نشوة بآي جمال
في السماوات والدئى مرقومة
ولحون مرموزة من وجيب القلب
أنشدتها لغى مفهومة
لا أراعي بها هياكل لفظ
أو أصولاً مفروضة مرسومة
أيها القارئون شعري:
مرايا لسجايا صغيرة وعظيمة
هو روحي أو بعض إشراق روحي
هو نفسي مجهولة معلومة
هو سرّ الحياة لاح لحدسي
وضميري فصغته ترنيمة
من يشأ نقده فلا ضير لكن
هو قلبي فمن يرى تحطيمهْ
وهكذا نرى الشاعر بصريح العبارة يقطع الطريق على النقد والنقاد ويقرر بما لا يحتاج إلى تعليق أن شعره إذا أردت أن تنتقده حطمته وقد جاء على السجية من غير تنميق وتزويق وأظن أن هذا لا يمنع من قراءة شعره قراءة ذوقية مع مقاربته نقدياً لاستجلاء فنه الشعري.
فالشاعر عمر بهاء الدين الأميري يتصف بغزارة الإنتاج، وغالباً ما تكون الكثرة على سبيل الجودة، أو الكم على سبيل الكيف، وهذا الحكم لا ينجو منه إلا من رحم ربك من الشعراء، حتى أن أمير الشعراء أحمد شوقي إذا غربلنا شوقياته لا يبقى منها إلا القليل.
ولنبدأ بالحديث عن ديوان "مع الله" وأحب أن أنوه أولاً بألوان الشعر التي كانت سائدة آن ذاك، وخاصة في الاتجاه الديني، إذ كان الشعر الديني في معظمه إما هو أصداء لشعر الزهد الذي عرف منذ عهد أبي العتاهية، أو هو يدور في فلك المدائح النبوية كما هو الحال لدى أحمد شوقي في نهج البردة، أو هو إعادة إنتاج لما قاله أعلام الشعر الصوفي من أمثال ابن الفارض وابن عربي والحلاج والسهروردي، أو هو في أحسن حالاته كان يستلهم تعاليم الإسلام كما وردت في القرآن والأحاديث النبوية، فيقتبسها على نحو مباشر ويعيد صياغتها شعرياً.
ولا يوجد نموذج يقترب من المثال آنذاك إلا شعر محمد إقبال الذي أسس لمفهوم جديد للشعر الديني المعاصر، وأثر شعره في معظم شعراء المشرق، إذ كان هو النموذج الأكثر إقناعاً في ذلك الحين، لأنه نقل الشعر الديني نقلة بعيدة وأعاد صلته بالحياة، فكانت نقلة معاصرة نابعة من رؤية معاصرة. ويوم صدر ديوان "مع الله" في أواخر الخمسينات كانت الساحة الأدبية متعطشة إلى مثل هذا اللون من الشعر أي ذلك اللون الشعري الذي يخرج من الزوايا والتكايا والصوامع وينطلق إلى آفاق الكون والحياة والواقع، ليعيد اكتشاف الكون من جديد برؤية إيمانية، وهي رؤية يمكن أن أصفها بأنها تنظر بعينين تحققان ذلك التوازن المنشود، فعين واقعية تنظر إلى الكون وموقع الإنسان فيه، وعين أخرى تأملية تنظر إلى ما وراء هذا الكون، وترسل نظرة إلى العالم الآخر الذي هو في النهاية مآل الإنسان بعد انتقاله من هذه الحياة.
ويحوي الديوان قصائد مطولة ومقطّعات لا تتجاوز أحياناً البيتين، مثل مقطوعة "مغزى" أما القصائد المطولة فبلغت إحداها 109 أبيات مثل قصيدة "في قرنايل".
والجدير بالذكر أن عنوان الديوان مسبوق من قبل بعض الكتاب الذين أعجبتهم مثل هذه التسمية فجعلوها عنواناً لكتب أدبية وفكرية. وأذكر على سبيل المثال الأستاذ محمد إسماعيل إبراهيم الذي أصدر كتاباً أدبياً بعنوان "مع الله" وعزَّزه بقوله: "تسبيحات قلب وابتهالات محب ومشاعر تصوف في شعر منثور" وقد صدر في مصر في رمضان 1371هـ أي قبل ديوان الأميري بثماني سنوات، والأميري يلتقي مع محمد إسماعيل إبراهيم في توجهاته الروحية، التي فيها مناجاة لله، وهي لا تخرج في النهاية عن الحب الإلهي.
¥