وهذه القصيدة هي في الحقيقة ذاتية، وفيها قدر ليس بالقليل من معاناة الشاعر، وخاصة في مطلعها الذي يضج بالألم "رباه قد ضج الألم" وفيها في النهاية تسليم وانقياد للقضاء والقدر بعد عجزه عن كل محاولات التطلع إلى عالم الغيب وأسرار الوجود ومثل هذا نجده أيضاً في مقطوعة "غَلَق":
يا ربي أنت الذي أوجدت من عدم
ذاتي، وألقيتني في عالم البشر
فلست أعلم من سري ومن قدري
لا بمقدار ما أعُطيْتُ من قدر
وكيف يعبر خلف الأفق بي بصري
حتى أراك، وقد ألجمت من بصري
ودون رؤياك أحيا العمر في غلق
من التظنِّي، وقد انساق في وطري
وهذا ما يجعل الديوان ليس فقط في الاتجاه الديني، وإنما نلمح الاتجاه الذاتي والوجداني ولعل أكثر قصائد الديوان ذاتية تلك التي جعل عنوانها يشي بهذا الاتجاه قبل أن يتبدى في القصيدة. و عنوانها: "عزلة الأحرار" وفيها يقول:
قالوا اعتزلت فقلت: صنت كرامتي
ولزمت في رهج الزحام إبائي
لاءمت بين تصرفي وسجيتي
وحفظت حق الله والعلياء
وذخرت نفسي للعظائم صابراً
وطويت عن ذل الصغار ردائي
قالوا: ومعترك الجهاد؟ فقلت: هل
أضحى الجهاد تهاتف الغوغاء
وتهافت المتفرجين وزينةً
وتدافعاً في الساح يوم رخاء
قالوا: اعتزلت؟ فقلت عزلة رابض
متحفز للوثبة الشماء
إني لأرجو أن أحاول صادقاً
في صوغ ذاتي من تقى ومضاء
لأكون في الجلى إذا الداعي دعا
سهماً يصيب مقاتل الأعداء
ما عزلة الأحرار إلا عزة
والصبر كل الصبر في اللأواء
إن التوحد في الرجال إلى مدى
شحذ لحد الهمة القعساء
وإضافة إلى الاتجاه الديني والذاتي نجد الاتجاه الجمالي الذي ينطلق من الوصف ليصور لنا الطبيعة بطريقة مختلفة عن التصوير التقليدي وللتدليل على هذا الاتجاه ننتقل إلى قصيدة "في قرنايل" التي تعد بحق ملحمة من نوع خاص، فهي كما أشرنا من قبل أطول قصيدة في الديوان وتكاد تكون معلّقة معاصرة، وأظن أنها أهم قصيدة ليس فقط في ديوانه الأول بل في مجمل ما كتبه الشاعر. وفيها يقول:
يا لحسن وروعة في دبيب العزم
لم يبق ذا حياة بداره
ماج منه الوادي بروحٍ مُطِلٍ
من كوى الفجر، خافق في إطاره
لابس بهجة الصباح، ووهج الماس
والدر، في اتضاح نهاره
فاتّقاد النشاط في ساكنيه
كاتقاد الحياة في أطياره
ورفيف الفراش والنحل يحكي
دأب النمل جَدَّ في تسياره
ويمر النهار في نصَب السعي
ويبدو المساء خلف ستاره
في احمرار، كخدّ بيضاء رود
حجبت بالشفوف من جلّناره
وكأني بالشمس غارت من الوادي
وقد لاح زاهياً في خِماره
ثم ألقى عباءة الليل عنه
فتبدى الجمال بعد استتاره
ثم أضحى تهتزّ في جانبيه
خطرات الحياة، رغم وقاره
وبالمناسبة فإن هذه القصيدة أعاد الشاعر نشرها في ديوانه: "ألوان طيف" وذلك ليس لأهميتها فحسب بل لأنها لون متميز من ألوان الطيف الشعري الذي ينتظم شعر الأميري. والقصيدة على جمالها وفنيتها المتميزة إلا أنها لا تخلو أحياناً من الهبوط الاضطراري في بعض مقاطعها وخاصة الأخير منها الذي يتحدث فيه عن نفسه. والقصيدة يمكن أن نجعلها في أربعة أقسام: 1 ـ وصف الطبيعة. 2 ـ صراع عناصر الطبيعة. 3 ـ ربط الطبيعة بالخالق 4 ـ ربط الطبيعة بذات الشاعر.
أما ما في هذه القصيدة بالذات من جماليات تجعلها أكثر فنية من غيرها فنوجزه بعد أن نذكر ما قاله الشاعر في مقدمتها:
"إنها تصوير لإطلالة الفجر وإشراقة النهار، وتخيل لصراع بين الشمس والوادي على ابتزاز الروعة والجمال، ساعة الغروب، والدهر يشهد هذا الحدث الرتيب. ثم انتقال إلى آفاق من النجوى والشكوى والألم والأمل، والعزيمة الحائرة في النفس الثائرة".
إن أهم ما يميز القصيدة بإيجاز: ذلك الخيال الخصب المبدع الذي تجلى في القصيدة من خلال الصراع العنيف الذي أداره الشاعر بين الشمس والوادي، إلى أن يتحول هذا الصراع إلى ملحمة من نوع خاص، ملحمة فيها التوتر الدرامي، والتصعيد نحو تأزم الحدث، وفيها التشخيص الذي نقل الشمس والوادي نقلة فنية ليجعل منهما شخصيتين تتصارعان للظفر في هذه المعركة الطاحنة، حيث الغلبة للأقوى. وهكذا يتعامل الشاعر مع الطبيعة التي لم تعد طبيعة صامتة، وإنما تحولت إلى طبيعة تضج بالحركة والصوت وكأنها في ساحة معركة حقيقية تراق فيها الدماء ويتصارع فيها الشخوص. وكأنك أمام حدث حقيقي توفرت له كل المقومات ليصبح أكثر إقناعاً بأنه حدث واقعي.
¥