فراغها المسيج، ولكنها تظهر في وسائل بنائها، تظهر في جمل، وفي فقرات، وفي نصوص ..
إن أهم ما يميز السرد هو تفاوته في بناء عوالمه الخيالية، فما يبنيه في الرواية غير ما يبنيه في القصيصيصة، وما يبنيه في القصة الطويلة غير ما يبنيه في القصيصصة، وما يبنيه في الرواية القصيرة غير ما يبنيه في القصيصة، وما يبنيه في القصة القصيرة غير ما يبنيه في الأقصوصة وهكذا، غير أن ما يجب أخذه بعين الاعتبار هو أدوات البناء، صحيح أن اللغة هي الأداة الأولى والأخيرة وهي مشتركة بين جميع الأجناس، ولكن كيفية البناء مختلفة، وصقل اللبنات التي هي كلمات مختلفة أيضا، فما يتطلبه نص قصير مضغوط غير ما يتطلبه نص طويل، الأول بفراغ مسيج يحتاج إلى سابح ماهر، والثاني بفراغ مسيج يحتاج إلى مهارة أقل وهكذا ..
ولإعطاء مواصفات للكيفية التي يسار عليه لبناء النصوص المضغوطة كالقصيصيصة مثلا يمكن القول بضرورة العناية الفائقة بالأسلوب، فهو الذي يمكّن المبدع من الدلالة الواسعة في كلمة موجزة، وهو الذي يفتح في الدلالة سعة فتصدر عنه المعاني ريانة ..
والأسلوب بقدر ما يكون مرنا؛ بقدر ما يكون طيعا في يد المبدع، وتكون لغته المعبر بها طيعة هي الأخرى، فالمعنى البارد والمعنى الساكن لا يعبر عنه إلا بكلمات باردة وساكنة لا يرجى منها هز القارئ والمتلقي، وهي مستبعدة غالبا في الكتابة الأدبية، لأن النص الأدبي لم يضعه الأديب إلا لهز المشاعر، ولكن قد يكون هزها هو إدخالها الفريكو/ البراد؛ ولا بأس عند متطلبات سردية وتصويرية مرغوبة.
والنص الجيد لا يتلقاه المتلقي بمعنى بارد وساكن، بل يتلقاه باندهاش تحمى عليه عواطفه ومشاعره، يندهش لاقتحام حاسة النظر عالم ذهنيته، يندهش للمخيال الثر الناسل الذي يثار بسبب جودة الأسلوب وقوة السبك وبراعة الحبك .. ينفعل الذهن والقلب للسخرية إن عناها، وللجدية إن قصدها، يتذوق الجمال إذا ألقى عليه بظلاله ولو أن تكون الظلال سخرية في سخرية ..
والمعنى المجرد ليس من الأسلوب الأدبي، ولا يحبذه الأسلوب الفكري ..
فالطريقة التصويرية للتعبير عن الأفكار والمعاني يجب أن تعمد إلى تفاصيل تجسّم الصور حتى تبدو وكأنها قائمة متحركة في الواقع، أو توصل عند متابعتها إلى أن تكون فيلما متابعا ..
إن المكونات لجميع الأجناس السردية واحدة مع اختلاف طفيف اقتضاه واقع المضمون وأحيانا واقع الشكل، فالفنون تعشق قوالبها، إنها مظروفات لا تمجد إلا في ظروفها، ولكن ذلك لا يمنع من هجران القوالب إلى غيرها، إنها كالقواقع التي تسحر العين بجمال شكلها، وتوقف العقل لإرغامه على تقديس مبدعها، تحيى فيها الكائنات لتأدية دورها مع أشكال وأنواع الحياة الأخرى، وتستعمل من طرف غير أحيائها الأصليين للمراوغة والانتقال والتخفي ..
لا يمكن في نظري لروائي أن يجعل لروايته حيزا في قصيصيصة، ولا في قصيصصة، لا يسع الرواية قلبا وقالبا فن القصيصة أو الأقصوصة أو القصة القصيرة، ولكن يمكن للروائي كتابة القصيصيصة وجعل حيز لها في الرواية، يفعل ذلك أيضا مع القصيصصة والقصيصة والأقصوصة والقصة القصيرة، يمكن تزيين الرواية بكثير من الأجناس الأدبية المختلفة، ولقد وظفت ذلك في روايتي: نساء مستعملات، لم أترك الشعر المقفى ولا قصيدة النثر ولا الرموز الموسيقية ولا أجناس سردية أخرى كالأقصوصة الصحفية، والقصة النصفية، والأقصوصة الذاتية، والرواية القصيرة والقصيصة .. دون توظيفها فيها بتقنية ماتعة ..
إن الجاحظ حين تمرد على البديع لم يكن متمردا على ذات البديع وهو يكتب فيه، بل كان متمردا على أسلوب الكتاب والمبدعين الذين بالغوا في البديع حتى بات كثير منه فيه تصنّع، فجاءنا بجنس الناذرة، كما جاءنا، وهو موضوعنا، بالنصوص العارية، ولكنها لم تكن عارية بمفهوم قيامها على الشكل دون المحتوى، أو المحتوى دون الشكل، كلا ..
هذا ويكاد يأخذني الإلحاح لإعادة النظر في القصة القصيرة كتعر يف تتميز به في حجمها عن القصة الطويلة، يسوقني إلى القول بأن القصة القصيرة هي القُصيْصَة، والأقصوصة هي القُصيْصِصَة، والقصيْصَة هي القُصيْصيصة، ولكني لا أجد حماسا لإحساسي بضياع الوقت في بحثها من هذا المنظور، ربما جانبت الصواب هنا، ولكن لا حيلة لي مع عقلي العاشق للعمق والاستنارة المبجل لرأي البحاثة الذي لا يقبل إلا باستفراغ كل وسعه تبجيلا وتقديرا لقارئه، وأرجو أن أكونهما ..
=======
محمد محمد البقاش
أديب باحث وصحافي من المغرب
طنجة في:
15 يوليو 2007
ـ[حميدي2005]ــــــــ[28 - 01 - 2010, 10:32 م]ـ
:::
احسنت اخي محمد والمبدع مبدع
ـ[الأمل الموعود]ــــــــ[28 - 01 - 2010, 11:08 م]ـ
ستبدي لك الأيام ما كنت داريا=ويأتيك بالقصيصيصات من لم تزود;)
بحث جميل، ومعالجة رائعة، أحسنت الطرحولجة (أعني الطرح والمعالجة)،وفقك الله لكل خير.
تمنياتي لك بدوام الإبداع أخي الفاضل.