تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وإذا كان الصبر على الأذي لئلا يفعل الفاحشة أعظم من صبره على ظلم إخوته، فكيف بصبر الرسل على أذي المكذبين لئلا يتركوا ما أمروا به من دعوتهم إلى عبادة الله وحده، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن/ المنكر؟! فهذا الصبر هو من جنس الجهاد في سبيل الله، إذ كان الجهاد مقصودًا به: أن تكون كلمة الله هي العليا وأن الدين كله لله، فالجهاد والصبر فيه أفضل الأعمال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله) وهو حديث صحيح رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه، وهو من حديث معاذ بن جبل الطويل، وهو أحب الأعمال إلى الله. فالصبر على تلك المعصية صبر المهاجر الذي هجر ما نهي عنه، وصبر المجاهد الذي جاهد نفسه في الله وجاهد عدو الله الظاهر والباطن، والمهاجر الصابر على ترك الذنب إنما جاهد نفسه وشيطانه، ثم يجاهد عدو الله الظاهر؛ لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله، صبر المظلوم وصبر المصاب.

لكن المصاب بمصيبة سماوية تصبر نفسه ما لا تصبر نفس من ظلمه الناس، فإن ذاك يستشعر أن الله هو الذي فعل به هذا، فتيأس نفسه من الدفع والمعاقبة وأخذ الثأر، بخلاف المظلوم الذي ظلمه الناس، فإن نفسه تستشعر أن ظالمه يمكن دفعه وعقوبته وأخذ ثأره منه، فالصبر على هذه المصيبة أفضل وأعظم كصبر يوسف ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ وهذا يكون لأن صاحبه يعلم أن الله قدر ذلك فيصبر على ذلك كالمصائب السماوية، ويكون أيضًا لينال ثواب الكاظمين الغيظ والعافين عن/الناس والله يحب المحسنين، وليسلم قلبه من الغل للناس، وكلا النوعين يشترك في أن صاحبه يستشعر أن ذلك بذنوبه، وهو مما يكفر الله به سيئاته ويستغفر ويتوب، وأيضًا فيري أن ذلك الصبر واجب عليه، وأن الجزع مما يعاقب عليه، وإن ارتقي إلى الرضا، رأي أن الرضا جنة الدنيا، ومستراح العابدين، وباب الله الأعظم، وإن رأي ذلك نعمة لما فيه من صلاح قلبه ودينه وقربه إلى الله، وتكفير سيئاته وصونه عن ذنوب تدعوه إليها شياطين الإنس والجن شكر الله على هذه النعم.

فالمصائب السماوية والآدمية تشترك في هذه الأمور، ومعرفة الناس بهذه الأمور وعلمهم بها، هو من فضل الله يمن به على من يشاء من عباده؛ ولهذا كانت أحوال الناس في المصائب وغيرها متباينة تباينًا عظيمًا، ثم إذا شهد العبد القدر وأن هذا أمرًا قدره الله وقضاه وهو الخالق له، فهو مع الصبر يسلم للرب القادر المالك الذي يفعل ما يشاء وهذا حال الصابر، وقد يسلم تسليمه للرب المحسن المدبر له بحسن اختياره الذي: (لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له: إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له) كما رواه مسلم في صحيحه عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا تسليم راض لعلمه بحسن اختيار الله له، وهذا يورث الشكر. وقد يسلم تسليمه للرب المحسن إليه المتفضل عليه بنعم عظيمة، وإن لم/ ير هذا نعمة، فيكون تسليمه تسليم راض غير شاكر، وقد يسلم تسليمه لله الذي لا إله إلا هو المستحق لأن يعبد لذاته، وهو محمود على كل ما يفعله، فإنه عليم حكيم رحيم، لا يفعل شيئًا إلا لحكمة، وهو مستحق لمحبته وعبادته وحمده على كل ما خلقه، فهذا تسليمُ عبدٍ عابدٍ حامدٍ، وهذا من الحمادين الذين هم أول من يُدْعَى إلى الجنة، ومن بينهم صاحب لواء الحمد، وآدم فمن دونه تحت لوائه، وهذا يكون القضاء خيرًا له ونعمة من الله عليه.

لكن يكون حمده لله ورضاه بقضائه من حيث عرف الله وأحبه وعبده، لاستحقاقه الألوهية وحده لا شريك له، فيكون صبره ورضاه وحمده من عبادته الصادرة عن هذه المعرفة والشهادة، وهذا يشهد بقلبه أنه لا إله إلا الله، والإله عنده هو المستحق للعبادة، بخلاف من لم يشهد إلا مجرد ربوبيته ومشيئته وقدرته، أو مجرد إحسانه ونعمته، فإنهما مشهدان ناقصان قاصران، وإنما يقتصر عليهما من نقص علمه بالله وبدينه الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه؛ كأهل البدع من الجهمية والقدرية الجبرية والقدرية المعتزلة، فإن الأول مشهد أولئك، والثاني مشهد هؤلاء، وشهود ربوبيته وقدرته ومشيئته مع شهود رحمته وإحسانه وفضله مع شهود إلهيته ومحبته ورضاه وحمده والثناء عليه ومجده، هو مشهد أهل العلم والإيمان من أهل السنة والجماعة التابعين بإحسان/

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير