و قد يوحي شياطين الإنس و الجن (و هو ما فسره البعض بوسوسة الشيطان)، بعضهم لبعض، و هو قوله جل جلاله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}. أو يوحون لأوليائهم، و هو قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}.
فهذه جل أنواع الوحي في اللغة، و هي كما تبينها الآيات إما الإعلام و الإخبار الخفي، أو الإلهام، أو الأمر، أو الإشارة و الإيماء و الإيحاء.
و من معانيه أيضا الرسم، يقال: وحَيْتُ إِليه و أَوْحَيْتُ. و قد يأتي فعل أوحى بمعنى كتب كما جاء في ذلك شعرا (العجاج):
حتى نَحَاهُمْ جَدُّنا والنَّاحِي لقَدَرٍ كانَ وحَاه الوَاحِي
بِثَرْمَداء جَهْرَةَ الفِضاحِ
فيأخذ الوحي معنى الكتابة و الرِّسالة وكلُّ ما أَلقيته إِلى غيرك، و يكون مرادفا للمكتوب و الكتاب، و على ذلك جمعوا فقالوا وُحِيٌّ مثل حَلْيٍ وحُلِيٍّ، قال لبيد:
فمَدافِعُ الرَّيّانِ عُرِّيَ رَسْمُها
خَلَقاً، كما ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلامُها
أَراد ما يُكتب في الحجارة ويُنقش عليها. وفي حديث الحرث الأَعْوَر: قال علقمة قرأْتُ القُرآن في سنتين، فقال الحرثُ: القرآن هَيِّنٌ، الوَحْيُ أَشدُّ منه، أَراد بالقرآن القِراءة وبالوَحْي الكِتابة والخَطَّ.
فالوحي كما هو واضح من معانيه لغة الكتابة و الخط و الرسم.
و أما الوحي الشرعي فهو، كما بينا، إعلام من الله وحده إلى نبي من أنبيائه. و فيه قال الجويني:
(كلام الله المنزل قسمان:
- قسم قال الله لجبريل:
قل للنبي الذي أنت مرسل إليه: إن الله يقول: افعل كذا و كذا، ففهم جبريل ما قاله ربه، ثم نزل على ذلك النبي، و قال له ما قاله ربه، و لم تكن العبارة تلك العبارة، كما يقول الملك لمن يثق به: قل لفلان، يقول لك الملك: اجتهد في الخدمة، و اجمع جندك للقتال. فإن قال الرسول: يقول الملك: لا تتهاون في خدمتي، و لا تترك الجند تتفرق، و حثهم على المقاتلة، لا ينسب إلى كذب و لا تقصير في أداء الرسالة.
- و قسم آخر، قال الله لجبريل:
اقرأ على هذا النبي الكتاب، فنزل جبريل بكلمة من الله من غير تغيير، كما يكتب الملك كتابا و يسلمه إلى أمين، و يقول: اقرأه على فلان، فهو لا يغير منه كلمة و لا حرفا) (). قلنا و لله المثل الأعلى.
قال السيوطي:
(القرآن هو القسم الثاني، و القسم الأول هو السنة، كما ورد أن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن، لأن جبريل أداه باللفظ و لم يبح له إيحاءه بالمعنى، و السر في ذلك أن المقصود منه التعبد بلفظه و الإعجاز به - فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظ يقوم مقامه، و أن تحت كل حرف منه معاني لا يحاط بها كثرة فلا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليه – و التخفيف على الأمة، حيث جعل المنزل إليهم على قسمين: قسم يروونه بلفظه الموحى به، و قسم يروونه بالمعنى، و لو جعل كله مما يروى باللفظ، لشق، أو بالمعنى، لم يؤمن التبديل و التحريف.
... و في ما أخرج ابن أبي حاتم من طريق عقيل عن الزهري ما يعضد كلام الجويني، فعنه أنه سئل عن الوحي، فقال: الوحي ما يوحي الله إلى نبي من الأنبياء، فيثبته في قلبه، فيتكلم به و يكتبه، و هو كلام الله و منه ما لا يتكلم به، و لا يكتبه لأحد، و لا يؤمر بكتابته، و لكنه يحدث به الناس حديثا، و يبين لهم أن الله أمره أن يبينه للناس، و يبلغهم إياه).
و من ثم فالوحي، الذي هو رسالة النبي الخاتم محمد صلى الله عليه و سلم التي تحدى الله تعالى بها العلمين، هو ما يلفظ و يكتب معا. و لسنا هنا نختلف عما قاله الأولون في هذه المسألة، ممن تكلموا فيها، و إنما نكمله و نوضحه .. و ربما كان نوعا من الزيادة الرقيقة على ما تكلم به البعض منهم حيث أنهم تكلموا عن الوحي من حيث هو النقل الشفوي و غفلوا عن مسألة الكتابة مع أن من سبقهم، كما توضح، قد تكلم في هذا، و حتى القرآن قد أجزل في توضيحه و تفسيره ..
¥