وسُمِِّيَّ هذا التشبيهُ وهميّاً لأنَّ هذه الصُّوَرَ الذِّهنيَّةَ موجودةٌ في أوهامِهم وتخيُّلِهم، بغضِّ النَّظَرِ عن وجودِها في الخارجِ أو عدمِه. وقد ذكرنا فيما سبقَ أنَّ الألفاظَ موضوعةٌ بإزاءِ الصُّورِ الذِّهنيَّةِ، فهي إذن مُتصوَّرةٌ في الوهمِ ومُتخيَّلَةٌ ومُدركةٌ، سواءٌ أكانَ لها وجودٌ في الخارجِ أم لم يكن لها وجودٌ.
وقولُك في وصفِ رجلٍ غنيٍّ "هو جبلٌ من ذهبٍ" أو في وصفِ حصانٍ سريعٍ "هذا حصانٌ يطيرُ بجناحين" أمرٌ مُتَخَيَّلٌ موهومٌ لا وجودَ له في الواقعِ الخارجيِّ أو الواقعِ الموضوعيِّ، ومع ذلك فهو مُتصوَّرٌ في الذِّهنِ ومعهودٌ له، لما في العقلِ من قدرةٍ على التَّركيبِ والتَّجزئةِ والتخييلِ. فالجبلُ والذهبُ والحصانُ والأجنحةُ مفرداتٌ مدركةٌ معروفةٌ معانيها، ولها وجودٌ في الذهنِ والخارجِ، أمّا "جبلٌ من ذهبٍ" و "حصانٌ بجناحين" فصورةٌ مُرَكَّبَةٌ لا وجودَ لها إلا في الذهنِ فقط، وقد يضعُ لها الإنسانُ لفظاً خاصّاً بها ويدُلُّ عليها مع أنَّه لا وجودَ لهذه الصُّوَرِ إلاّ في الذِّهنِ فقط.
وعليه فإنَّ هذه الألفاظَ ومعانِيَها معهودةٌ للعَرَبِ ومعروفةٌ لهم، فلا يقالُ إنَّ القرآنَ خاطبَهم بما لا يعرفون، وجاءهم بتشبيهاتٍ لا عهدَ لهم بها.
وهكذا نرى أنَّه في كلِّ الأحوالِ، وفي كلِّ أضربِ التشبيهِ، لا بدَّ أن تكونَ أركانُه معروفةً معهودةً، وأن تََتَحَقَّقَ شروطُه حتى يؤدِّيَ غرضَه عند المُخاطَبِ، ومن المعروفِ عند النُّقّادِ والأدباءِ أنَّ من عيوبِ التشبيهِ خَفاءَ وجهِ الشَّبَهِ وبُعدَه، وتَكَلُّفَ الأذهانِ والعُقولِ في طَلَبِه، ولا يكونُ ذكرُ التشبيهِ للإلغازِ، أو لِتَعمِيَةِ المعنى على السامعِ، وإدخالِ الوهمِ إلى نفسِه إلاّ في الطَّرائفِ والمُمازحاتِ، كقولِك لرجلٍ "أنت كالحمارِ" في الدلالةِ على وفورِ صحَّتِه، وصبرِه ...
قال أبو العباسِ المبرّدُ في هذا المعنى:
(والعربُ تشبِّهُ على أربعةِ أضربٍ: فتشبيهٌ مفرطٌ، وتشبيهٌ مصيبٌ، وتشبيهٌ مقاربٌ، وتشبيهٌ بعيدٌ يحتاجُ إلى التفسيرِ ولا يقومُ بنفسِه، وهو أخشنُ الكلامِ) (5). ثم قال في بيانِ التشبيهِ البعيدِ:
(وأمّا التشبيهُ البعيدُ الذي لا يقومُ بنفسِه، فكقولِه:
بل لو رأتني أختُ جيرانِنا ... إذ أنا في الدّارِ كأني حمار
فإنما أرادَ الصحَّةِ، فهذا بعيد، لأنَّ السامعَ إنما يستدلُّ عليه بغيره. وقال اللهُ عزَّ وجلَّ – وهو من البَيِّنِ الواضحِ- ?مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً? (الجمعة:5) في أنهم قد تعامَوا عنها، وأضربوا عن حدودِها، وأمرِها ونهيِها، حتى صاروا كالحمارِ الذي يحملُ الكتبَ، ولا يعلمُ ما فيها) (6)، فاستخدامُ لفظِ الحمارِ في الدلالةِ على وفورِ الصحَّةِ بعيدٌ قبيحٌ، بخلافِ استخدامِه في الدلالةِ على الغباءِ وبلادةِ الحسِّ.
ونرى – أيضاً- أنَّ التشبيهَ مهما كان مُوغِلاً في الغرابةِ -وسواءٌ أكانَ وجهُ الشبهِ قريباً أم بعيداً بشرطِ ألاّ يمجَه الذَّوقُ- لا يجوزُ بحالٍ ألاّ يكونَ مفهوماً ومعهوداً، أو مُنَزَّلاً منزلِةَ المعهودِ والمعروفِ بين الناسِ، وإلا نُسِبَ الشاعرُ أو الأديبُ إلى العِيِّ والعَجْزِ، وعدمِ الوفاءِ بحقِّ المعنى.
نعودُ لمُدارسةِ الآيةِ على حسبِ ما يدَّعيه أصحابُ التفسيرِ العِلميِّ، فنقولُ بناءً على تفسيرِهم: يقولُ اللهُ في هذه الآيةِ إنَّه إذا أرادَ إضلالَ من كََتَبَ عليه الضَّلالَ يجعلُ صدرَه ضيِّقاً حَرَجاً، وحتى يُقَرِّرَ معنى الضِّيقِ والحَرَجِ عند المُخاطَبِ، ويُقَرِّبَه إلى الأذهانِ، ويمكِّنَه في نفسِه، يُشبِّهُ ضيقَ الصَّدرِ وحرجَه في الكافرِ – على رأيهم - بضيقِ الصَّدرِ الذي يكونُ من رجلٍ يَصَّعَّدُ في السَّماءِ!
فإن سألناهم: ما وجهُ الشَّبَهِ؟
قالوأ: وجهُ الشَّبهِ أنَّ الأكسجينَ يقلُّ في طبقاتِ الجوِّ العليا، فيؤدّي هذا إلى ضيقِ الصَّدرِ وحَرَجِه!!!
فإن قلنا لهم: فهل فهمَ العربُ هذا المعنى آنذاك؟
قالوا: لا ... لأنَّه لم يكن معهوداً لهم ولا معروفاً عندهم ...
¥