تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومن ذلك أيضاً ما نقولُه – في لهجتِنا المحكيَّةِ- "هذا يريدُ إقامةَ الدِّين في مالطا"، أو "بدّو يقيم الدين في مالطا"، للرَّجلِ يتكلَّفُ ما لا يُطيقُ، أو يدَّعي القدرةَ على المستحيلِ، وكأنَّ إقامةَ الدينِ في مالطا شيءٌ عسيرُ المنالِ، أو كالمستحيلِ، ودعواك أنَّك تريدُ أن تفعلَ كذا وكذا أمرٌ أهونُ منه إقامةُ الدينِ في مالطا، والتي هي مطلبٌ عسيرٌ لا يمكن حصولُه. فترانا نضربُ الأمثالَ في الدلالةِ على صعوبةِ الأمرِ بإقامةِ الدينِ في مالطا، مع أنَّ إقامةَ الدينِ في أمريكا أو أوروبّا الآنَ أصعبُ منها في مالطا. ولكنَّه لمّا كان هذا مثلاً معهوداً عندنا في الدلالةِ على طلبِ المستحيلِ، والتكليفِ بما لا يطاقُ، جازَ لنا أن نضربَه مَثَلاً، ولا تجدُ الواحدُ منا يبحثُ في أصلِ هذه المقولةِ، ولا في الواقعِ الفِعليِّ لاستحالةِ إقامةِ الدينِ في مالطا.

فأين هذا من تفسيرِ أربابِ الإعجازِ العلميِّ الذي يَتَضَمَّنُ خروجاً على قواعدِ البلاغةِ والذَّوقِ، وحسنِ الإفهامِ، ومخاطبةَ العربِ بغيرِ ما يعهدون؟!

ومن هذا البابِ - أيضاً- قولُه تعالى ?وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ? (يونس:42)، وقولُه ?إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ? (الروم:52)، وقوله ?أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ? (الزخرف:40) في الدلالةِ على أنَّ مَثَلَ هؤلاء الكُفّارِ في عدمِ الانتفاعِ بما يُتلى عليهم، وعدمِ تدبُّرِهم كلامَ اللهِ، ونَظَرِهم في صدقِ دعوةِ رسولِ اللهِ r مَثَلُ الصُّمِّ الذين لا يسمعون ما يقالُ لهم، وفي عدمِ بصيرتهم بالحقِّ كالعُمي الذي لا يرون ما شأنُه أن يُرى. أي أنَّ اللهَ أصمَّهم عن الحقِّ، وأعماهم عنه، فكيف يسمعون أو يبصرون؟ والمقصودُ هنا أنَّك يا محمّدُ – في سعيِك لهدايةِ من كَتَبَ اللهُ عليه الضَّلالَ- بمنزلةِ من يدَّعي أمراً مستحيلاً في العادةِ، وهو القدرةُ على إسماعِ الصُّمِّ، أو هديِ العُمْيِ. ولم أسمع أحداً من أربابِ الإعجازِ العلميِّ يذهبُ إلى دراسةِ حاسَّةِ السمعِ أو حاسَّة البصرِ، والدلائلِ العلميةِ لهذه الآياتِ، والسببِ الذي بعدمِه تنعدمُ حاسَّةُ السمعِ أو البصرِ، فلا يمكنُ في العادةِ إعادتُها إلى الأصمِّ أو الأعمى، وأنَّ العلمَ الحديثَ يقولُ – مثلاً- بأنَّ هناك أجهزةً معيَّنَةً في السمعِ أو البصرِ، إذا تلفت استحال أن يستعيدَ الأصمُّ سمعَه، أو الأعمى بصرَه، أو أنَّ الإنسانَ إذا ابتعد عن فكرةٍ ما، وانصرفَ ذهنُه عنها، يحدثُ في أجهزةِ السمعِ والبصرِ عنده شيءٌ ما يحولُ علميّاً بينه وبين سماعِ هذه الفكرةِ وما هو منها بسبيلٍ. إذا كان هذا في السمعِ والبصرِ بمنزلةِ التكليفِ بما لا يُطاقُ، أو ادعِّاءِ ما لا يكون من بَشَرٍ، فليكن صعودُ السماءِ – في استحالتِه وفي أنَّه تكليفٌ بما لا يُطاقُ كمن يريدُ إسماعَ الصمِّ أو هديَ العميِ، ومن العبثِ وسوءِ الفهمِ أن نذهبَ في تأويلِ الآيةِ أو تفسيرِها بمقتضى العلمِ الحديثِ.

فلا يجوزُ – إذن- أن يقالَ: إنَّ العربَ لم يفهموها، ولم يدركوا المرادَ بها حتى جاء العلمُ الحديثُ فكشف الغطاءَ عن المرادِ بهذه الآيةِ، لا يقالُ هذا لأنَّ الواقعَ والمعروفَ - في أمُّهاتِ كتبِ التفسيرِ القديمةِ- أنَّ العربَ والمفسرين الأوَّلين قد فهِموها وفسَّروها على معهودِهم، ولم تكن عندهم غيرَ ذاتِ معنىً، وما فهموه من الآياتِ على معهودِهم وتصرُّفِهم في الكلامِ حجَّةٌ علينا، ولنا فيه كفايةٌ، فلا نزيدُ فيه بلا دليلٍ أو أثارةٍ من علمٍ، فكيف ونحن ندّعي أنهم لم يفهموها حتى كشفَ العلمُ الحديثُ عن معناها؟ وكيف وقد بيَّنَّا بما لا يدعُ موقعاً للشكِّ أنَّ هذه التأويلَ العلميَّ فيه ما فيه من إخلالٍ بأصولِ البلاغةِ وفنِّ التشبيهِ، وأنَّ المقصودَ من التشبيهِ في القرآنِ كما هو في لغةِ العربِ أنَّه لتقريبِ المعاني للأذهان، وإفهامِهم إياها، وليس للإلغازِ أو لتعميةِ المعاني وكتمانِها، وتركِها للأجيالِ القادمةِ! وهذا خلافُ النُّصوصِ التي تدُلُّ قطعاً على أنَّ القرآنَ نزلَ بلسانِ العربِ، وأنَّه مُيسَّرٌ للذِّكرِ،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير