والقرآن - الذي هو كلامُ الله سبحانه وتعالى، والذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، والذي هو معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم الخالدة على وجه الدهر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها- هو من جنس كلام العرب في ألفاظه وتراكيبه ومعانيها، فلا نفهمه ولا نعقله إلى على ما كانت العرب تفهمه وتعقله. لهذا تجد المفسرين إذا ما حملوا آيةً ما على معنىً من المعاني، أو على وجهٍ من وجوهِ التأويل، جاؤوا من كلامِ العرب الأولين وأشعارهم بما يؤيد ما ذهبوا إليه، وتجدهم قد تكلموا فيما يحتج به وما لا يحتج من كلام العرب، وما يسمى بعصر الاحتجاج، كل هذا لأجل أن يفهموا القرآن على معهود العرب الأولين أهل اللسان الذي نزل به القرآن.
وفي هذا جواب الأخ محمد المختار، الذي قال إن التفسير الجديد تحتمله اللغة وتقبله العادة، فالحق أن اللغة لا تقبله من حيث إننا لا ننظر إلى معاني الألفاظ مجردة، وما يمكن أن تحتمله في كل عصر من العصور، بل نقول إن الأصل أن ننظر في معاني الكلام عند أهل ذلك العصر الذين نزل القرآن بلسانهم، لا في كل عصر.
وعلى هذا نقول: لمّا كانت أذهانَ العربِ الأوَّلين الذين نزلَ القرآن بلسانهم لا تنصرفُ إلى هذا المعنى الجديد للتصعد في السماء، عند النطقِ باللفظِ، ولمّا كان هذا اللازمُ غيرَ معهودٍ للعربِ الأوّلين الذين نزلَ القرآنُ بلسانهم فإن هذا كافٍ في ردِّ هذا الوجهِ المُدَّعى في تفسيرِ الآيةِ من حيث اللغة، إذ لا يجوزُ لنا أن نُفسِّرَه بغير ما كانت تعهده العربُ، ولا يجوز أن نذهب في تأويله على معهودِنا في الألفاظِ ولوازمِها، التي جدَّتْ وتغيرت في عصرنا هذا.
إذن ...
فلا يجوزُ بحالٍ أن يكونَ ما كشف عنه العلم الحديث وجهاً من وجوهِ تفسيرِ الآيةِ وتأويلِها، حتى ولو مرجوحاً، ذلك أنَّ الراجحَ والمرجوحَ في التأويلِ إنما يكونُ فيما تحتمِلُه الألفاظُ من معانٍ على معهودِ العربِ الأوّلين وتصرُّفِهم في الكلامِ آنذاك، وليس فيما يمكنُ أن تحتملَه هذه الألفاظُ من وجوهٍ على الإطلاقِ، وفي أيِّ عصرٍ من العصورِ. فلفظُ "اللمسِ" في قولِه تعالى ?أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء? (النساء:43) مُتَرَدِّدٌ عند العربِ - وعلى معهودِهم آنذاك في الكلامِ وتصرُّفِهم فيه- بين اللمسِ والوطءِ، أي لفظُ "اللمسِ" عندهم محتمِلٌ للمعنيين، فهو في حقيقتِه – عندهم- لمجرَّدِ المُلامسةِ والتماسِّ، ويُستعمَلُ بمعنى الوطءِ والجماعِ على ضربٍ من التَّوسُّعِ والمجازِ، والراجحُ والمرجوحُ في هذين المعنيين يعرفُ عند المجتهدين كلٌ بدليلِه، فالمعنيان كلاهما معهودان للعربِ، ومعروفان لهم، وهما محتَمَلان في الآيةِ على معهودِهم آنذاك، وكذلك لفظ "القرء" في تردده بين الحيض والطهر، وتردد النكاحِ بين العقد والوطء. أما تردُّدُ لفظِ "التصعُّد في السماءِ" بين إفادةِ التكليفِ بما لا يطاقُ، وإفادةِ نقصانِ الأكسجينِ في طبقاتِ الجوِّ العليا، فليس بصحيحٍ، إذ هو في المعنى الأوَّلِ معروفٌ معهودٌ للعربِ نأخذُ به في تفسيرِ الآيةِ، وهو في المعنى الثاني غيرُ معهودٍ ولا معروفٍ، فلا يكونُ مقصوداً في الآيةِ، ولا يجوزُ بحالٍ أن يكونَ محتَملاً ولو احتمالاً مرجوحاً.
وبما أنَّ هذا المعنى الجديدَ للتصعُّدِ في السماءِ - الذي يدّعون أنَّ العلمَ قد كشفَ عنه- لم يكن معهوداً للعربِ، ولا معروفاً لهم، فلا يجوزُ – على هذا- أن يكونَ وجهاً من وجوهِ تفسيرِ الآيةِ، لا راجحاً ولا مرجوجاً.
فلا ينبغي أن يُقالَ بهذا الوجهِ في تفسيرِ الآيةِ، لِما فيه من مُخالفةِ اللغةِ، وخروجٍ على أصولِ البلاغةِ وحُسنِ الإفهامِ. ثم إنَّ لنا أن نُلزمَ أنصارَ الإعجازِ العلمي والقائلين به على هذا أن يقبلوا بالتفسيرِ العلميِّ لكلامِ العربِ وأشعارِها، وما يمكنُ أن يدّعى من أنَّ الشعراءَ أشاروا في أشعارِهم وقصائدِهم، وأن العرب أشارت في أمثالها إلى حقائقَ علميَّةٍ كشفَ عنها العلمُ الحديثُ كما في مثال حمرة الخجل التي أشار إليها الشاعر، بصمة الإصبع في المثل الذي ضربته العرب للحذق والمهارة.
وبعد أيها الإخوة ...
فأحسب أنني بهذا قد استوفيتُ الحديث حول هذه الآية، وبيَّنتُ تهافتَ القول بالإعجازِ العلمي (التجريبي) المدَّعى في هذه الآية، من حيث بيان أن القول بالإعجاز العلمي فيها يبطل الغرض من التشبيه ويتضمن خروجاً على أصول البلاغة وحسن الإفهام، ومن حيث إن العرب الأولين قد فهموها وأدركوا معناها، فلا يجوز أن يُقالَ إن العرب الأولين لم يفهموها حتى جاء العلم الحديث فكشف عنها، ومن حيث إبطال قول من يريد أن يجعل ما كشف عنه العلم الحديث وجهاً جديداً من وجوه تفسير الآية، ذلك أن هذا يأباه فقه اللغة.
فإن أحسنت فمن الله، وإن أسأتُ فمن نفسي ومن الشيطان.
وإن كان فيما أوردتُه آنفاً شيء لم أوفه حقَّه من البيان والتفصيل، فلعل هذا خشية الإطالة، على أن يتضح ما كان منه خافياً بمدارسة الإخوة بارك الله فيهم.
هذا والله أعلم، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلِّم.
¥