وثمة إشكال قد يرد على هذه الآية، وقد أورده "القرطبي" في تفسيره، يقول: ((فإن قيل: فما للداعي قد يدعو فلا يُجاب له؟ فالجواب: أن يُعلم أن قول الحق في الآيتين ? أجيب ? و? أستجيب لكم ? (27) لا يقتضي الاستجابة مطلقاً لكل داعٍ على التفصيل، ولا بطل مطلوب على التفصيل، فقد قال ربنا – تبارك وتعالى – في آية أخرى ? ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ? (28)، وكل مصرٍّ على كبيرة عالم بها أو جاهل فهو معتدٍ، وقد أخبر أنه لا يحب المعتدين، فكيف يستجيب له؟!، وأنواع الاعتداء كثيرة)). (29)
ومما قيل – كذلك – في الإجابة على ذلك الإشكال: أن في الآية حذفاً، تقديره: أجيب دعوة الداع إن شئتُ، يدل على ذلك قوله في آية أخرى? فيكشف ما تدعون إليه إن شاء ? (30))). (31)
ختام الآية وبلاغتها:
وبعد أن أمر – سبحانه – عباده بالدعاء، وبعد أن تكفل بالإجابة ختم الآية بقوله ? فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ? جاء الأمر بالاستجابة له في قوله ? فليستجيبوا لي ? متفرع عما قبله، فإذا كان – سبحانه – يجيب دعوتهم فهم مأمورون بالاستجابة له والانقياد التام له، والمعنى: فليستجيبوا لي ((أي إذا دعوتهم للإيمان بالطاعة، كما أجيبهم إذا دعوني لمهماتهم)). (32)
وفي مجيء الأمر بالاستجابة بصيغة الاستفعال إشارة إلى صعوبته، ومشقته على النفس البشرية، كما أن فيه – كذلك – معنى الإكراه والإلزام، وأطر النفس أطراً على هذا الأمر، وحملها بالقوة على هذه الاستجابة حتى تصل إلى مبتغاها، وتحقق الاستجابة لله. (33)
الإطناب في الآية: طريقه وبلاغته:
وقوله ? وليؤمنوا بي ? من عطف الخاص على العام، وهو طريق من طرق الإطناب، تتجلى بلاغته في هذا المقام أن فيه مزيداً من الاهتمام بالخاص، وهو الإيمان، ولذا أُفرد بالأمر، وخُصَّ بالذكر، وإن كان داخلاً في عموم الأمر بالاستجابة لله – عزَّ وجل – والغرض من الأمر بالإيمان: الحث والتحريض، وأمرهم بالثبات على ماهم عليه، والاستمساك به، ونظير ذلك قوله – تعالى -? يأ أيها الذين آمَنوا آمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزَّل على رسوله والكتاب الذي نزَّل من قبل ? (34) ففي الأمر زيادة في التمسك به، والحرص عليه، والازدياد فيه.
ثم ختم – سبحانه – الآية بقوله ? لعلهم يرشدون? أي لعلهم يهتدون إليَّ بسبب إيمانهم واستجابتهم لي (35)، فهم المستفيدون من هذه الاستجابة، ومن ذلك الإيمان، فهم من سيقطف ثمارها، وينعم بخيرها، وهو – سبحانه – غني عن العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحواشي والتعليقات:
() في ظلال القرآن: 2/ 167.
(2) انظر: إرشاد العقل السليم:1/ 201.
(3) انظر: التحرير والتنوير: 2/ 178.
(4) انظر: المصدر السابق: 2/ 178.
(5) انظر: البحر المحيط: 2/ 52.
(6) انظر: البحر المحيط: 2/ 52.
(7) انظر: إملاء ما منَّ به الرحمن 1/ 82.
(8) انظر: روح المعاني:2/ 63.
(9) انظر: حاشية الشهاب: 2/ 280.
(10) انظر: روح المعاني: 2/ 63.
(11) التحرير والتنوير: 2/ 189.
(12) البقرة: 189.
(13) البقرة: 215.
(14) ومن هؤلاء المفسرين: الزمخشري، انظر: الكشاف: 1/ 337، وأبو السعود، انظر: إرشاد العقل السليم:1/ 201، ومحيي الدين زادة، انظر: حاشيته: 1/ 495، والألوسي، انظر: روح المعاني: 2/ 63، وغيرهم.
(15) الكشاف: 1/ 337.
(16) حاشية محيي الدين زادة: 1/ 495.
(17) تأملات في سورة البقرة: 2/ 1046.
(18) ق: 16.
(19) الحديد: 4.
(20) محاسن التأويل: 3/ 431.
(21) الحديد: 4
(22) صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر إلا في المواضع التي ورد الشرع برفعه فيها كالتلبية، وغيرها، واستحباب الإكثار من قول " لاحول ولا قوة إلا بالله "، برقم: 6867.
(23) العقيدة الواسطية:449.
(24) ومن هؤلاء: أ. د محمد الصامل، فقد ناقش هذه القضية وبسطها في كتابه " المدخل إلى بلاغة أهل السنة والجماعة"، وكذلك د. عبدالمحسن العسكر، ناقض هذه القضية في بحثه الموسوم بـ (إصلاح "الإيضاح" للخطيب القزويني: استدراكات ومناقشات)، وقد أفرد جزءاً للملحوظات العقدية، انظر: مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، العدد:46، لعام 1426هـ.
(25) انظر: التحرير والتنوير: 2/ 189.
(26) انظر: محاسن التأويل: 3/ 433.
(27) غافر: 60.
(28) الأعراف: 55.
(29) الجامع لأحكام القرآن: 2/ 207.
(30) الأنعام: 41.
(31) تفسير القرآن: 1/ 186.
(32) محاسن التأويل: 3/ 449.
(33) انظر: نظم الدرر: 3/ 76.
(34) النساء: 136.
(35) انظر: جامع البيان: 3/ 227.
ـ[عبدالرحمن الشهري]ــــــــ[17 Sep 2009, 01:47 ص]ـ
بارك الله فيكم يا أبا يزيد ونفع بكم.
وقفات بلاغية موفقة.