تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والاستماع لأقوالهم، فيكون لفظ " قريب" استعارة تبعية تمثيلية)). (16)

ولا يخفى ما تضمنته هذه الأقوال من انحرافات عقدية أُتي أصحابها من التحريف أو التعطيل أو التكييف أو التمثيل في أسمائه – سبحانه – وصفاته، وقد أحسن د. حسن محمد باجودة في حديثه عن معنى قوله ? فإني قريب ? يقول: ((والتحقيق: أن مذهب السلف إقرار النصوص في الصفات على ظاهرها من غير تعطيل، ولا تمثيل ولا تأويل والله – تعالى – قد أسند القرب في هذه الآية إلى ذاته فنأخذ هذا الإسناد على ظاهره مع إثبات تنزيهه عن مماثلة خلقه، وإثبات صفات الكمال التي نفهم منها المراد من هذا القرب في كل سياق بحسبه)) (17)

وقد زاد هذا المعنى وضوحاً الإمام القاسمي في تفسيره لهذه الآية، يقول: ((والقريب من أسمائه – تعالى – الحسنى، ومعناه: القريب من عبده بسماعه دعاءه، ورؤيته تضرعه، وعلمه به، كما قال ? ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ? (18)، وقوله ? وهو معكم أين ماكنتم ? (19))). (20)

والقول الفصل في هذا المعنى ما ذكره الإمام تقي الدين ابن تيمية – رحمه الله – يقول: ((ودخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله: الإيمان بما أخبر الله به في كتابه، وتواتر عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأجمع عليه سلف الأمة من أنه – سبحانه – فوق سماواته على عرشه، عليّ على خلقه، وهو معهم أينما كانوا، يعلم ماهم عاملون، كما جمع بين ذلك في قوله ? هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير ? (21)،وليس معنى قوله ? وهو معكم أين ماكنتم ? أنه مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، بل القمر _ آية من آيات الله – من أصغر مخلوقاته، وهو موضوع في السماء، وهو مع المسافر أينما كان، وهو – سبحانه – فوق العرش، رقيب على خلقه، مهيمن عليهم، مطلع إليهم، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته، وكل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق العرش، وأنه معنا حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يُصان عن الظنون الكاذبة ... ودخل في ذلك: الإيمان بأنه قريب من خلقه مجيب، كما جمع بين ذلك في قوله ? وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ... ? وقوله - عليه السلام - للصحابة لما رفعوا أصواتهم بالذكر: (والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة أحدكم) (22)، وما ذُكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذُكر من علوه وفوقيته، فإنه – سبحانه – ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وهو عليٌّ في دنوه، قريب في علوه)). (23)

وقد تعمدتُ ذكر هذه المسألة والإطالة فيها؛ لأهميتها، ولخطورتها – أيضاً -، ولأدلف منها إلى قضية أخرى هي من الأهمية بمكان، وهي أن كثيراً من المسائل البلاغية بحاجة إلى تخليصها من الشوائب التي علقتْ بها، فحطَّتْ من شأنها، وأنقصتْ من قدرها، مما جعلها عرضة للنقد، أو الازدراء أو التهميش، خاصة فيما يتعلق بالأمور العقدية، وقد تنبه إلى هذه المسألة وخطورتها بعض الباحثين الغيورين، ولهم في ذلك جهود مشكورة، كما أن لهم مساعي حثيثة في تخليص البلاغة مما علق بها من الانحرافات العقدية، وهي جهود مشكورة ومساعٍ حثيثة (24)، وإن كنتُ أدعو إلى الاعتدال في معالجة هذه القضية؛ حتى لا تُجر البلاغة إلى مباحث العقيدة، إذ لا بد أن تتمايز الأمور، حتى لا يختلط أحدهما في الآخر، فلكل واحد منهما تخصصه القائم بذاته المنبثق من موضوعاته، ومباحثه الخاصة به.

وكأن قوله ? فإني قريب ? تمهيد للجملة التي بعدها وهي قوله ? أجيب دعوة الداع إذا دعان ? فقد قرَّبتْ من معناها، وسهلتْ من قبولها (25)، كما أن قوله – كذلك - ? أجيب دعوة الداع إذا دعان ? تقرير لمعنى القرب، وتحقيق له، وقطع بإجابة الدعوة (26)، ومن هنا يتجلى السرُّ في اختيار لفظة ? أجيب ? فإن فيها الوعد الحق بالإجابة، ومن هنا جاء اختيارها في هذا المقام، دون لفظة "أسمع" إذ السماع لا يلزم منه الإجابة، أما قوله ? أجيب ? فهو وعد منه – سبحانه – ووعده الحق، فقد أمر بالدعاء، وتكفل باِلإجابة.

إشكال قد يرد في الآية والإجابة عليه:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير