الكريم. والمدارسة القرآنية لها منهجها الخاص الذي به تتم، وهو منهج يقوم على قاعدتين:
* القاعدة الأولى: قاعدة: «اقرأ وتدبر ثم أبصر»، وهذه القاعدة تهم الدارس للقرآن بمفرده، وتهم المجتمعين لمدارسته؛ فهي السبيل لاستخلاص الهدى المنهاجي من القرآن الكريم، وبيانها في حقيقتين:
أ ـ حقيقة واجب التحقق بالقرآن: والمراد بها: التحقق بالقرآن فهماً وإدراكاً وعلماً، إذ بهذا التحقق يستقيم الفكر ويصح الفهم عن الله تعالى، ولا يتم هذا إلا بالقراءة أولاً ثم التدبر ثانياً؛ القراءة بمعنى التلاوة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ... »، والتدبر بمعنى التأمل والتفكر في المقروء، لقوله ـ تعالى ـ: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]. إنه تدبُّر يتجاوز مرتبة دائرة التدبر بالعقول إلى مرتبة التدبر بالقلوب ليتحقق بذلك الإبصار، وهو إبصار يتجاوز الإبصار الفردي إلى الإبصار الجماعي للبصائر القرآنية وهداياته المنهاجية.
ب ـ حقيقة واجب التخلُّق بعد التحقُّق: وهي حقيقة تخص الفرد الدارس والجماعة، وسبيلها التبصر بعد القراءة والتدبر والإبصار. والإبصار هنا:
ـ إبصار العقول الواعية والقلوب الحية للطريق المستقيم والمنهاج القويم. قال ـ تعالى ـ: {قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} [الأنعام: 104].
ـ وإبصار للنور القرآني والهدى الرباني وتبصر بهما: {وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52].
ـ إبصار للميزان الذي به يعرف الحق من الباطل، والهدى من الضلال، والنور من الظلام: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 20].
ـ وإبصار لمنهج القراءة العام: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، سواء أتعلق الأمر بقراءة الوحي أم بقراءة الأكوان والمخلوقات؛ فالمقروءات كلها ينبغي أن تقرأ باسم الله حتى يتحقق المقصود منها وتعرف أسرارها.
ـ وإبصار لحقيقة الله ـ تعالى ـ خالق كل شيء، وحقيقة غيره من المخلوقات، وذلك بالرحيل من الأكوان المخلوقة إلى عظمة المكون الخالق سبحانه وتعالى.
ـ وإبصار للأولويات وتبصّر بالعمل بها، وإبصار لمنهج العدل القرآني ولمنهج تسخير السنن الكونية وعمارة الأرض بما ينفع الناس؛ فإرسال الرسل وإنزال الكتب إنما كان القصد منهما ذلك. قال ـ تعالى ـ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25].
وخلاصة الأمر، فإن المراد بحقيقة التخلُّق: التخلق بالهدى المنهاجي المستنبط من الوحي، وذلك بالاهتداء بهدايات القرآن، واتباع منهجه والاستقامة عليه، {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا} [هود: 112]. فالاتباع والاستقامة هما سبيل الفلاح في الدنيا والآخرة، قال ـ تعالى ـ: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157].
* القاعدة الثانية: قاعدة: «أخذ القرآن بمنهج التلقي» (1)، فالواجب على الدارس للقرآن فرداً كان أو جماعة يجتمعون في مجلس للمدارسة .. ، الواجب عليهم جميعاً أن يتعاملوا مع القرآن بهذه القاعدة المنهجية في تلقّي القرآن، فالتلقي هنا تلقٍّ خاص، المراد به: استقبال القلب للوحي، وهو على ضربين:
ـ استقبال على سبيل النبوة؛ وهو خاص بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، لقوله ـ تعالى ـ: {وَإنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 6]، فهو تلقٍّ لرسالة الوحي من الله تعالى، اقتضته طبيعته: {إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 5].
ـ واستقبال قلبي للوحي على سبيل الذكر؛ وهو عام في كل مؤمن أخذ القرآن بمنهج التلقي وقصد به التذكر: {إنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} [المزمل: 19].
¥