وأما لماذا يختلف رسم كلمة واحدة في موضع عن رسم الكلمة نفسها في موضع آخر، فهذا ما تتكفل بتعليله وتوضيحه الدراسات الحديثة في مجال رسم المصحف وتاريخ الكتابة العربية الحجازية .. فقد وُجِدت آليات مختلفة في تلك الكتابة العربية (التي نجد في رسم المصحف نموذجا لها) لتكون تلك الكتابة الخالية من الإعجام ومن أكثر الألفات والواوات والياءات دالة على حقيقة اللفظ، فقد تبين أنهم كانوا أحيانا يدلّون على الفتح بالألف (أي يدلون بمصوت طويل على مصوت قصير)، كما في: لااذبحنه، والأصل: لَأذبحنه، وربما دفعهم إلى هذه الكتابة أن (لاذبحنه) يلتبس بشيء آخر مثل (لِأذبحنه) ..
وأما (لشاى) أي (لِشَاْيْءٍ)، فهذا مما تلقي عليه الدراسات الحديثة ضوءا كافيا، وعندي كتاب من تلك الدراسات الحديثة يشرح ذلك، بعنوان (تاريخ الكتابة العربية وتطورها) في جزءين، وسأنقل ـ في مشاركات تالية ـ شرحه وتعليله لكل من (لشاى) و (لااذبحنه) و (بأييد) و (بأييكم) وغير ذلك، لأنني الآنَ لا أتذكر تعليلاته بشكل جيد .. ويمكن أن نقول أيضا إن الصحابي الكاتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ارتأى وجها من الكتابة في موضع ووجها آخر في موضع آخر، وربما كانت معرفة الصحابي الواحد بالكتابة وأصول الكتابة التي يعرفها تختلفان عما لدى صحابي كاتب آخر، ولذا وقع اختلاف في رسم كلمات متماثلة في مواضع مختلفة ..
المهم أننا إذا لم نكن ندري وجه تعليل رسم كلمة ما في المصحف لا يجب أن يدفعنا ذلك إلى القول بأن في ذلك سرا إلهيا، بل يجب أن ندرس المصاحف المخطوطة درسا استقرائيا ونكون على علم تام بتاريخ الكتابة العربية وتطوّر المصحف حتى نفهم أسرار ذلك الرسم وتلك الكتابة والأساليب المتبعة في ذلك الرسم ..
وإذا كان الدليل على توقيفية رسم المصحف هو تلك الأساليب الغريبة في رسم بعض الكلمات، فهو دليل ضعيف جدا لا يقوى على الثبات بعد تطوير علم الكتابة العربية ورسم المصحف على أيدي باحثين قديرين من أمثال الدكتور غانم قدوري الحمد والدكتور طيار آلتي قولاج وغيرهما ..
وإذا كان أساس مدرسة الإعجاز العددي هو القول بتوقيفية رسم المصحف وكانت هذه المدرسة تعلل الكتابة الخاصة للكلمات القرآنية والحروف الناقصة والزائدة فيها على أنها أسرار رقمية أودعها الله سبحانه في القرآن؛ كانت تلك المدرسة متهاوية من أساسها، لأنه تبينت الآن الظروف الواقعية التي تمت فيها كتابة المصحف الشريف وتبينت خصائص تلك الكتابة العربية والأساليب التي كانت متبعة في الكتابة في تلك المرحلة .. وحتى أن طائفة من العلماء السابقين كانوا قد انتبهوا إلى بعض خصائص وأساليب رسم المصحف بشكل يقترب مما توصلت إليه الدراسات الحديثة ..
ـ[جمال السبني]ــــــــ[24 Nov 2009, 09:17 م]ـ
3. وعليه فضابط ما هو كلمة يتعلق بالرسم: مثال: (وألّو) كلمة، أما (وأن لو) فكلمتان. و (يأيها) كلمة، أما (يا أيها) فكلمتان. (يإبرهيم) كلمة، (يا إبراهيم) .... ألخ. ونقول ببساطة: انظر أخي كيف تكتب ردك في المنتدى لتعلم ما هي الكلمة في الرسم. ثم انظر مثلاً في إحصاء الفيروزبادي في كتاب بصائر ذوي التمييز لتدرك أن الكلمة عندهم وفق الرسم. وإليك ما يقوله الرازي في مختار الصحاح عن (لاجرم) يقول:" قال الفراء: هي كلمة كانت في الأصل بمنزلة لابدّ .. ".
أنا أقول إن اعتبار الكلمة هي (الكلمة الإملائية)، شيء اصطناعي ولا يعبر عن حقيقة مطلقة، و (الكلمة النحوية) أكثر قربا من أن تكون حقيقة جديرة بالاعتماد ..
وذلك لأن الكلمة الإملائية تقوم على الفصل والوصل، وهذا الفصل والوصل قد يكون أحيانا مستندا إلى اللفظ وليس حقيقة الكلمة .. فمثلا (وألَّو)، هذا الرسم يعبّر عن (وأن لو)، وهذا الثاني لا يختلف عن الأول في اللفظ فيُنطَق مثله (وألَّو). ولذا فالكلمة الإملائية لا تنطوي على حقيقة مطلقة ..
وماذا عليّ إذا قلت إن الصحابي الذي كتب (وأن لو) كتب على الأصل، وأما الصحابي الذي كتب (وألَّو) فقد كتب على اللفظ؟
بينما الكلمة النحوية حقيقة ثابتة، لا تتأثر بالمواضيع والأساليب المختلفة.
وعلى اعتبار الكلمة النحوية، فعبارة (وألَّو) تتألف من ثلاث كلمات (و + أن + لو) وليست كلمةً واحدة. ودَع أن حرف العطف (و) يلتصق بما بعده وأن نون (أن) لم تظهر في اللفظ ولا في الخط، فهذا كله لا يغير من الحقيقة النحوية شيئا ولا يجعل العبارة كلمة واحدة.
وإذا كان الإخوة الباحثون في الإعجاز العددي يستندون إلى حساب الكلمات الإملائية، فنحن نستندون إلى حساب الكلمات النحوية .. وعليه فكلا الحسابين ظنيان، لا يمكن أن يُعتمَد عليهما في تقرير شأن يتصل بالإعجاز والمعجزات ..
وأما عن قول الفراء عن عبارة (لا جرم): (هي كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بدّ) .. فـ (الكلمة) ـ هنا ـ جاءت بمعناها اللغوي العام الذي يشمل الكلام بصورة عامة، سواء كان كلمة نحوية أو جملة مفيدة أو حتى خطابا .. وقد قال ابن مالك في الألفية:
* وكلمة بها كلام قد يُؤَمّ *أي: يُقصَد.
¥