وأودع الله تعالى فيه أيضاً من الشرائع العادلة مما يحتاجه الناس في عباداتهم وفي معاملاتهم وفي معاشرتهم لأهليهم مالا يبقى معه إشكال, فلم يدع شاذَّةً ولا فاذَّةً إلا وترك لنا منه علماً, وهو مبارك أيضاً في موعظته, فإن في القرآن موعظة لا توجد في غيره, وفيه تأثير على القلوب والله أعلم بمن خلق لا يحصل إلا به, وربما تفنن الوعاظ والمربون بأنواع المواعظ والتأثيرات وربما كان تأثيرها كبيراً, لكنه آنِيّ, أما موعظة القرآن فإنها باقية وثابتة ومؤثرة, فأعظم ما عالج به الإنسان قلبه كتاب الله عز وجل؛ ولهذا عَتِبَ الله تعالى على المؤمنين في أول الإسلام ما أصابهم من فتور, فقال سبحانه: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد/16]. فلابد أن يُحدث هذا القرآن خشية وخشوعاً في القلب, وكأن الله سبحانه وتعالى يحضُّهم ويُحرضهم على تحصيل هذا الأثر, ثم قال: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد/16] , فحذر الله تعالى من مشابهة أهل الكتاب، الذين جعلوا كتاب الله ظِهريّاً، ولم ينتفعوا به, فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم, فكتاب الله بين ظهرانيهم، لكنهم لا يرفعون به رأساً.
ثم أردف الله تعالى هذه الآية بقوله: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد/17] , فلفت الله الأنظار إلى أن حاجة القلوب إلى موعظة القرآن، أعظم من حاجة الأرض الميتة إلى ماء السحاب, فلئن كان ماء السماء يُحيي الأرض بعد موتها، فيُنبت الزرع، ويدرُّ الضرع, فإن هذه القلوب أحوج إلى ما أنزل الله من كلامه، من الأرض الميتة إلى المطر, فإذا ما كان في قلبك مَوات، فأسقه بالقرآن العظيم. والقرآن العظيم مبارك في آثاره فإنه يُحدث آثاراً حميدة في الحياة الدنيا، وفي الآخرة، على مستوى الأفراد، وعلى مستوى الجماعات، وعلى مستوى الأمة بعمومها.
فالمرء إن اعتصم به، والتزم بهديه أصلح الله له حاله ورُزق الحياة الطيبة واطمأنت نفسه وهدأ باله وحصّل نعيم الدنيا المتمثل بلذة مناجاة الله تعالى.
والمجتمع إن التزم بتعاليمه، وحدوده، وُقي من الشرور، والآفات، وحُفظت الأسرة من الخلاف، والفرقة، والنزاع، ورُوعيت الحقوق، والذمم.
والأمة بمجموعها إن التزمت به حقق الله لها النصر والتمكين, قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج/41]، وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور/55]
فالقرآن العظيم هو عهد ما بيننا وبين الله عز وجل, إن نحن التزمنا به، وعظّمناه، وقدّمناه، وجعلناه إماماً لنا، اهتدينا، وإن كانت الأخرى، فليس وراء ذلك إلا الضلال، والخسار، في الدنيا والآخرة.
ولا شك أن تلاوة كتاب الله، فهماً، وتدبراً، من أولى ما يكون, فإنه لا يخفى أن العلم الذي كان بين أيدي الصحابة، رضوان الله عليهم، هو هذا العلم المنزل من السماء؛ (القرآن العظيم) , ولم يكن بين أيديهم شيئاً من هذه الكتب المطولات، ولا الشروحات، ولا ما تمتلئ به رفوف المكتبات، وإنما كان أحدهم يُقبل على هذا الدين بكُليته, فيقرع سمعه القرآن، فيستحيل خلقاً جديداً, فما أن يسمع كلام الله عز وجل، حتى يستيقظ من غفلته، ويصحوا من غفوته، ويعلم سر خلقه، وإيجاده, فيعود خلقاً جديداً، يُنشئه الله نشأة أخرى. ولهذا صنع الله بأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم من الكرامة والخير والتمكين مالا يخفى قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا
¥