المقصد الثاني: تصنيف الناس إلى فريقين؛ الأبرار، والفجار, فريق في الجنة, وفريق في السعير, وإلى حزبين؛ حزب الله, وحزب الشيطان, وإلى سعداء، وأشقياء.
المقصد الثالث: ترسيخ الإيمان باليوم الآخر، وما فيه من النعيم، والعذاب.
المقصد الرابع: طمأنة المؤمنين بأن العاقبة للتقوى: وما أحوج المؤمنين في العهد المكي، إلى هذا المعنى، وهم في مرحلة الاستضعاف، والاستذلال، والأذى.
(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ): هكذا تستهل السورة بهذا الوعيد الشديد. وكلمة (ويل) في اللغة كلمة وعيد، وعذاب, قيل إنها اسم لوادٍ في جهنم, ولكنها بالمعنى الأعم تدل على الوعيد والعذاب.
(الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ): هذا هو تفسير التطفيف, يعني أنهم إذا أرادوا أن يأخذوا الكيل لأنفسهم استوفوا حقهم تاماً, (وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) يعني أنهم إذا كالوا للناس, أو وزنوا للناس، نقصوهم وبخسوهم حقهم. فالتطفيف إذاً، عبث بالمكاييل والموازين؛ إما بأخذ زيادة على المستحَق، وإما بنقص من الحق. وكلا الأمرين يحصل لكثير من الناس أثناء البيع والشراء. وقد قيل إن هذه السورة، أو صدرها على الأقل نزل في أول العهد المدني، روي ذلك عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، كان أهل المدينة من أخبث الناس كيلاً، فنزلت هذه الآيات, وقيل غير ذلك. والغالب، والله أعلم، أنها سورة مكية بجميع آياتها, وأن التطفيف، كان موجوداً لدى أهل الجاهلية. ونلحظ، أيضاً، أن القوم من أصحاب الثروات، يضطرون الناس إلى القبول بهذا الميزان المجحف؛ لحاجة الناس إليهم, فإن الناس يأبون أن يبخسوا أشياءهم، ولكنهم مضطرون إلى القبول. وهذا ما ينطبق انطباقاً كبيراً على حال الاقتصاد العالمي اليوم, فإنه يقع فيه التطفيف، وإلجاء الناس، بطرق الاحتكار المختلفة، إلى أن يقبلوا بالضيم، لينالوا حصتهم، وما يحتاجون إليه, فيتلاعب التجار الجشعون بالأسعار، ويرفعونها ليمتصوا دماء الفقراء. ولا حيلة للفقراء، إلا أن يبذلوا أموالهم؛ لأن هذه المواد، قوام حياتهم. فمسألة التطفيف لا تقتصر فقط على هذه الصورة البسيطة؛ أن ينقص من الوزن، أو أن يستوفي لنفسه، بأن يزيد قدر كف من طعام، أو نحوه.
وقد كان هذا الوصف الذميم، أعني بخس الناس أشياءهم موجوداً لدي أمة عذبت، وهي مدين، الذين بعث فيهم شعيب، عليه السلام، فكان يقول لهم (وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) , فهذا الأمر كان موجوداً في الأولين، ولا يزال موجوداً في الآخرين. وحين وقع العالم بأجمعه، في هذه القرون الأخيرة، في قبضة الاقتصاد اليهودي الربوي، فشت هذه المظاهر، وصار الناس أسرى لهذه المظالم, فلا يخفى أن الاقتصاد العالمي، اليوم، اقتصاد ربوي، وضع نظرياته، وآلياته، اليهود, وساقوا العالم بأجمعه على نظامه, وصار الربا فاشياً، شائعاً في جميع الأمم. وهذه الشريعة الغراء جاءت بتحريم الربا، حتى إنك لا تكاد تجد من الكبائر ما ورد فيه وعيد وتهديد في كتاب الله، كما ورد في الربا. وهذا يدلنا على كمال هذه الشريعة, وأنها منذ بزوغها كانت تهدف إلى إصلاح القلب، وإصلاح الحياة معاً, فلا يقال إن شريعة الإسلام تصلح السرائر وحسب, بل تصلح السريرة، والعلانية, تصلح الفرد، وتصلح المجتمع. فلأجل ذا وقع التنبيه على هذا الانحراف في العهد المكي.
ومن المفسرين من وقف على (كَالُوا) , و (وزنوا) فقرأ: "وإذا كالوا، هم يخسرون وإذا وزنوا، هم يخسرون" فعلى القراءة المشهورة، تكون متعدية، ومكتفية بذاتها, وعلى قراءة الوقف على "كالوا" تكون "هم" ضمير، من الكائل، والوازن. والأولى هو حسبانها كلمةً واحدة، ومما يدل على ذلك أن ألف الجماعة لم ترسم في المصحف بعد "كالو" و "وزنو".
(أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ): هذا الاستفهام "ألا" أداة تنبيه, والمقصود بها التوبيخ، والتبكيت, (يظن) بمعنى يستيقن, وإلا فربما يطيف بقلوبهم طائف، أنه ثم بعث، لكن القوم لم يستيقنوا، ولو استيقنوا، لاستقام سلوكهم, لكن لا يقين عندهم، بل هم إما منكرون للبعث، وإما متشككون فيه, ومعنى (مَبْعُوثُونَ) أي مخرجون من قبورهم أحياء.
¥