تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ): وكلمة (ويل) تقدم معناها، والمكذبون هنا هم المكذبون بالبعث؛ لأنه قد قال (أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) فهذا الظن منهم هو الذي أوردهم المهالك.

(الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ): كما قال: (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن) , هذه من المفاصل التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم، وبين الكفار. ومعنى (الدين) أي الجزاء.

(وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ): هذا مثال للترابط بين العقيدة الباطنة، والسلوك الظاهر؛ فمن غلب عليه العدوان، والإثم، صار قلبه أغلفاً، لا يقر بالحق، بل يستثقله ويأباه. ومعنى (معتد) أي متجاوز الحد من العدوان, و (أثيم): صيغة مبالغة على وزن فعيل, يعني والغ في الإثم، وهو ارتكاب المحظور.

ووجه الترابط بين العدوان والإثم، وبين إنكار البعث، أن الذي يسرف على نفسه بالمعاصي، والذنوب، وظلم الآخرين، يقلقه، ويزعجه، أن يقال له: إن من ورائك يوم آخر، يجازى المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته. فلذلك ينزع إلى نبذ هذه الفكرة، وإقصائها، ودفعها. ولهذا تجدون أن أصحاب الشهوات، المسرفين على أنفسهم، يدخل عليهم شك عظيم في هذا الباب؛ لأن الشهوات تلقح الشبهات.

(إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ): تتلى عليه آيات بينات, تخضع لها الرقاب, وتدرك العرب، وهم أهل الفصاحة، والبلاغة، أن هذا القول قول كريم، لا يستطيعون الإتيان بمثله، ومع ذلك: (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) ينهون عنه أتباعهم أن يصغوا إليه, وينأون عنه بأنفسهم لئلا يخضعوا لسلطانه!

وأساطير جمع أسطورة، بضم الهمزة، أو إسطارة، بكسر الهمزة، والمقصود بها الحكايات المسطورة، القديمة. وقد كان بعض المشركين إذا رأى عجب الناس مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: هلموا إلي أحدثكم بخير من حديث محمد، أحدثكم بحديث كسرى, واسفينديار, وغيرهم من ملوك العجم! يظن أن المسألة ترويج أساطير، وحكايات، ونحو ذلك، وشتان شتان! هذا الكتاب ليس كتاب أقاصيص، أو تسالي، وإنما يتضمن من الحقائق العظيمة، الثقيلة ما تحي به القلوب، وتصح به العقول.

(كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ): (كَلاّ) تقدم معناها, (بل ران): أي غطى، وغشا، وغمر. وهذا شاهد ثالث للعلاقة الوثيقة بين القلب والسلوك. فهذا الكسب الذي كسبوه بالتطفيف، كون على قلوبهم طبقة صلبة، فصارت قلوبهم بسبب كسبهم للمال الحرام، وتكذيبهم بالحق، كالحديد إذا صدأ. فهؤلاء الذين يكسبون الآثام، والعدوان، والمال الحرام، يقع على قلوبهم (الران) أو (الرين). وقد جاء في سنن الترمذي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً، نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ، وَاسْتَغْفَرَ، وَتَابَ، سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا، حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ. وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}) قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

ودون الران، الغان، ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ) رواه مسلم, وذلك أن المؤمن بحكم بشريته، ربما أدركته غفلة, لكن هذه الغفلة قشر رقيق، ما أن يذكر الله عز وجل، حتى تتقشع, أما الران فهو طبقة سميكة؛ لأنه إذا ظلت هذه النكت السوداء تتراكم عليه، حتى لا ترى حقاً، ولا تسمع حقاً. جاء في حديث حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ؛ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ) رواه مسلم.

(كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ):أولئك المكذبين بالبعث, (يومئذ) أي يوم القيامة, (عن ربهم) هذه ربوبية عامة, (لمحجوبون) أي محجوبون عن كرامته, ونعمته. وأعظم النعم التي يحجبون عنها النظر إلى وجه الله الكريم. وهذه الآية وما يقابلها بعد بضع آيات، وهي قول الله تعالى (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ) مما استدل به أهل السنة والجماعة على إثبات رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة. قال الشافعي، رحمه الله: لما حجب أولئك في السخط, نظر هؤلاء في الرضا.

(ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ): يعني داخلوا الجحيم، وحاصل لهم التصلية، بمعنى أنهم يحرقون، ويشوون فيها.

(ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ): اجتمع عليهم العذاب الحسي، والعذاب المعنوي, أما الحسي فظاهر, وأما المعنوي، فهذا التبكيت الشديد: (هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ).

الفوائد المستنبطة:

الفائدة الأولى: إثبات القدر السابق, وذلك في قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ) فهو كتاب مفروغ منه؛ لأن الله وصفه بأنه مختوم.

الفائدة الثانية: النكير على المكذبين بالبعث.

الفائدة الثالثة: تلازم صفات السوء, فهؤلاء جمعوا أوصافاً سيئة متلازمة؛ وهي الفجور, والتكذيب, والعدوان, والإثم, فأوصاف السوء يمسك بعضها برقاب بعض.

الفائدة الرابعة:تأثير الكسب الحرام على القلب

الفائدة الخامسة: شدة عقوبة الكافرين الحسية والمعنوية.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير