(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) هذه السورة العظيمة، سورة ذات موضوع واحد، ولها مقاصد عظيمة، يمكن أن نجملها بثلاثة مقاصد:
المقصد الأول: بيان منزلة المؤمنين عند ربهم.
المقصد الثاني: الأثر الذي يحدثه الإيمان في العلاقات بين البشر.
المقصد الثالث: تمجيد الرب نفسه, وحكمته في قدره، وشرعه.
(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ): السماء هي هذا البناء المحكم العلوي، الذي فوقنا. وهي السقف المرفوع: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا)، فهذه السماء يقسم بها الرب سبحانه وتعالى. وما نبصر منها إنما هو السماء الدنيا، سميت بذلك لدنوها من الأرض. وصف الله هذه السماء بأنها (ذات البروج) قيل إنها النجوم والكواكب, وقيل إنها القصور السماوية، التي تنزل فيها النجوم، والكواكب كما قال الله عز وجل: (تبارك الذي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا). وأصل هذه الكلمة البروج مأخوذ من البروز، والظهور. ولهذا سميت القلعة، برجاً، لبروزها وظهورها. ومنه قولهم: تبرجت المرأة، إذا برزت للناس. فمن قال إنها القصور، فإنه نظر إلى قول الله تعالى (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) , بل إن بعضهم قال: إن في السماء قصوراً تأوي إليها الملائكة. ولكن هذا لا دليل عليه، يؤثر فيعتمد عليه. والأقرب، والله أعلم، أن المقصود بالبروج المنازل التي تنزل فيها الكواكب، والأجرام السماوية، وعدتها اثنا عشر برجاً، وهي التي تسميها العرب: الحمل، والثور، والسنبلة، والجدي، والميزان، والعذراء, وهكذا. وقد كانوا يدركون من الأفلاك سبعة، أو ستة، ويجعلون كل نجم، أو كوكب يختص بشيء من هذه الأبراج.
وهذا قسم عظيم، لأن هذا الخلق الهائل، لا يدرك مداه إلا الله، ولهذا قال ربنا في آية أخرى (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) فمواقع النجوم هي هذه البروج التي تنزل فيها النجوم في أوقات مقدرة.
(وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ): اليوم الموعود لا أعلم فيه خلافاً أن المراد به يوم القيامة؛ لأنه يوم وعد الله فيه العباد، أو أوعد به العباد لجمعهم فيه.
(وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ): (شاهد): قيل إنه يوم الجمعة, (ومشهود): قيل يوم عرفة, فيوم الجمعة شاهد لأنه يشهد لمن حضرها، والمشهود يوم عرفة لأن الناس تشهده. ولكن هذا تفسير للشيء ببعض أنواعه، واللفظ أعم. فإن يوم الجمعة يصلح أن يكون شاهداً ومشهوداً؛ فهو شاهد لمن حضره، ومشهود ممن حضره, كما أن يوم عرفة أيضاً شاهد لمن حضره، ومشهود من قبل من حضره. فالراجح ما ذهب إليه ابن القيم أن الشاهد، والمشهود، أي المُدْرِك والمُدْرَك، والعالم، والمعلوم, والرأي، والمرئي. فكل شيء يدخل في (شاهد ومشهود) كل ما دل عليه اسم الفاعل، وما دل عليه اسم المفعول.
(قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ): قيل إن هذا هو جواب القسم. يعني قد قتل أصحاب الأخدود. وقيل إن جواب القسم (لتبعثن). والأقرب أن تكون على الظاهر، دون المضمر، فقد قال الله عز وجل: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ). ليس هذا القسم لإثبات هذه الحادثة وحسب، فإنها تثبت بمجرد خبر الله عز وجل, وإنما لتفخيمها، وتعظيمه، ا فإن هذه الحادثة، حادثة عظيمة جداً، جرت في زمن متقدم، وذلك أن الله سبحانه وتعالى هدى بعض الناس، في بلاد اليمن، فآمنوا بالله، قيل إنهم كانوا من النصارى الموحدين، ثم إن ملك زمانهم، والملأ من قومهم، نقموا عليهم نقمة شديدة، وأرادوا حملهم على الرجوع إلى دينهم، فأبوا، واعتصموا بالله عز وجل، فما كان منهم إلا أن خدُّوا لهم الأخاديد في الطرقات، والأخدود هو الشق في الأرض، وأضرموا
¥