ثانيها: تصور وضعي ضمني يتأسس على افتراض احتكار العلم التجريبي للمعقولية وللحقيقة. والمفارقة البادية للعيان، هي أن هذا التصور تشكل لدى الفلسفات الوضعية الرافضة للدين والساعية إلى استبداله بالعلم التجريبي، بل إن فيلسوف الوضعية الأكبر"أوجست كونت" سعى إلى بناء ديانة وضعية لها شريعتها وطقوسها لتعويض الديانات السماوية التي اعتبرها تناسب المرحلة الميتافيزيقية من تطور العقل البشري، في حين يعبر العلم التجريبي عن المرحلة الوضعية، التي هي أعلى محطات نمو العقل الإنساني. ولقد نفذت هذه المصادرة الوضعية إلى المخيال الجماعي المشترك وأصبحت تشكل مسلمة لا تقبل الاعتراض أو الجدل
هذا كلام قديم عفا عليه الزمن وأكل عليه الدهر وشرب، فالوضعية المنطقية التى جاء بها (أوجست كونت) قد تم تجاوزها فلسفيا وعلميا منذ زمن بعيد، وقد حلت محلها فلسفة اللاحتمية فى العلم الحديث والتى جاء بها ثلاثة أقطاب فى علوم الطبيعة هم: (ماكس بلانك) صاحب نظرية الكوانتم، و (هايزنبرج) صاحب نظرية الخطأ والاحتمال، ثم (شرودنجر) صاحب مبدأ اللاحتمية فى العلم الحديث، وأخيرا جاء (البرت أينشتاين) بنظرية النسبية التى قضت على ما تبقى من ادعاءات أوجست كونت وفلسفته الوضعية، فلم يعد العلم يحتكر المعقولية والحقيقة كما يقول الكاتب، وانما على العكس تماما أصبح دور العلم مقتصرا على الوصف دون أن يتجاوزه الى التفسير، ولم يعد العلم يدعى أن بامكانه معرفة الماهيات أو يحتكر الحقيقة، فهذا كلام - كما قلنا من قبل - قد عفا عليه الزمن وتم تجاوزه نهائيا
ثالثا: التمييز السائد بين علوم الطبيعة التي يفترض فيها الحياد القيمي والموضوعية والعلوم الإنسانية التي تعكس رؤية حضارية وقيمية مرفوضة من منطلق الخصوصية الإسلامية. ولهذه الرؤية مستويان: يتعلق أحدهما بفكرة الاستيعاب الانتقائي للحداثة باستيراد جانبها العلمي -التقني ونبذ جانبها الثقافي -الفكري، ويتعلق ثانيهما بتأسيس مرجعية حضارية خصوصية للدراسات الإنسانية بالمقاييس العلمية ذاتها. وإذا كانت الأطروحة الأولى قديمة ترجع إلى بواكير عصر النهضة العربية (منذ الطهطاوي وخير الدين التونسي والإمامين الأفغاني ومحمد عبده)، فإن الأطروحة الثانية جديدة نسبياً، وقد تجسدت عملياً في برنامج معهد الفكر الإسلامي بواشنطن ومشروعه الطموح "لأسلمة المعرفة
هذا تمييز مشروع ولا غبار عليه، فهل يريد الكاتب أن نستورد قيم الغرب وثقافته أيضا وألا نكتفى بالجانب العلمى والتقنى؟!!
وتبدو المفارقة العجيبة فى أن هذا التمييز الانتقائى الذى يعيب عليه الباحث هو نفس ما دعانا القرآن اليه، قال تعالى فى معرض المدح والثناء:
"فبشر عباد، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب " 18 - الزمر
وعليه فنحن مأمورون باتباع الأحسن ونبذ ما عداه، فأين الخطأ فى ذلك؟!.
وليس من الصحيح أن التقنية هي نتاج تطبيقي للعلوم التجريبية كما يُظن عادة، بل هي الروح النظرية للعلوم وخلفيتها الميتافيزيقية حسب تعبير الفيلسوف الألماني الكبير هايدجر. ولذا فإن مشروع استنبات العلوم التجريبية واستيراد التقنية خارج السياق الثقافي المرجعي للحداثة أمر إشكالي غير بديهي على عكس ما يتوهم دعاة الاستيعاب الانتقائي
أولا: الفيلسوف مارتن هايدجر لم يكن فيلسوفا علميا، بل كان فيلسوفا وجوديا، وهو لم يتحدث عن التقنية بمفهومها الواسع، وانما كان حديثه فحسب عن استعمال (الأداة) بوصفها سمة مميزة للكائن البشرى، وكان ذلك فى سياق فلسفى وجودى محوره الانسان لا غير، ولم يتطرق فيه الى تأسيس فلسفة علمية على الاطلاق
ثانيا: أوضحنا من قبل أن استيراد القيم الثقافية يعد أمرا مرفوضا، أما استيراد التقنية (التكنولوجيا) فلا اثم عليه ولا اشكال فى هذا التمييز على الاطلاق كما يزعم الكاتب، ولا ضرورة لأخذ الأثنين معا، أو تركهما معا، فان (أخذ الجمل بما حمل) ينطوى على دعوة مبطنة الى التغريب والاستسلام للغزو الثقافى، وأعتقد أن أمرا كهذا يأباه المسلم الصحيح الايمان
والله هو الهادى الى سواء السبيل.
ـ[إبراهيم الحسني]ــــــــ[08 Nov 2009, 11:43 م]ـ
ثانيا: أوضحنا من قبل أن استيراد القيم الثقافية يعد أمرا مرفوضا، أما استيراد التقنية (التكنولوجيا) فلا اثم عليه ولا اشكال فى هذا التمييز على الاطلاق كما يزعم الكاتب، ولا ضرورة لأخذ الأثنين معا، أو تركهما معا، فان (أخذ الجمل بما حمل) ينطوى على دعوة مبطنة الى التغريب والاستسلام للغزو الثقافى، وأعتقد أن أمرا كهذا يأباه المسلم الصحيح الايمان
والله هو الهادى الى سواء السبيل.
أخي الكريم:
أولا: مسألة أن هذا الكلام أكل عليه الدهر وشرب لا ترد الأدلة القائمة في هذا الكلام، ولا تنقص من قيمته العلمية.
ثم إن الفلسفات العلمية المعاصرة على اختلاف فلاسفتها وجنسياتهم تصب في نتيجة واحدة لا زالت قائمة حتى بعد "نظرية النسبية" وهي أن التجربة وحدها هي سبيل معرفة الحقيقة العلمية، وهي طريق معرفة الكون، وإن مططها بعضهم لتشمل الظواهر الغريبة "علميا" فالمعول عليه في كل ذلك هو التجربة لا غير.
ثانيا: قول الله تعالى: "فبشر عباد الذين .. " واضحة الدلالة في المتبعين أحسن القول، وفرق بين احسن القول وحسنه، وبين أحسنه وأخشنه ..
ثالثا: كيف تقول إن استيراد الثقافة أمر مرفوض، واستيراد التقنية والتكنلوجيا المفسرة للقرآن الكريم أمر مقبول.
فإذا كان ينطبق على أحدهما أن فيه حسنا يتبع؛ ففي القيم الثقافية الغربية مسائل حسنة فما المانع - حسب نفس المنهج - من أخذ تلك القيم الثقافية؟
¥