تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

في المجال الأول استخدموا سيرة ابن اسحاق (المبتدأ والمبعث والمغازي)، وحيث ما كفاهم ذلك عادوا الى قصص بني إسرائيل في القرآن – وبعد هذا وذاك، عندما يجدون أن الاقتباسات من المصدرين ليست كافية أو تُظهر اختلافات بين صورة النبي في القرآن والسنّة والسيرة عن النبوة والأنبياء عند بني إسرائيل، فإنهم يذهبون الى أن الصحابة حرَّفوا وغيَّروا القرآن مثلما فعلوا في آيتي الكلالة وآية ختم النبوة!

أما في المجال الثاني فقد أصرَّ الدارسون من المستشرقين الجدد على أن القرآن في الأصل نُسخة مترجمة عن السريانية للإنجيل الأبيوني (إحدى الشِيَع المسيحية)، ومنهم من يُسرِفُ في الحميمية فيحدّد لنا ورقة بن نوفل ابن عم خديجة أُمّ المؤمنين باعتباره مطران تلك الطائفة بمكة، وهو الذي ولّى النبي زعامة الطائفة من بعده، وكان النبيُّ يعرفُ السريانية، لكن أصحابه زادوا من «تعريب» القرآن أو تحريفه لأنهم ما كانوا يعرفون السريانية (!).

وقبل سنوات سمّى سرياني من أصل لبناني نفسه لوكسنبورغ، وأعاد ثلاثمئة كلمة من القرآن الى «أُصولها السريانية» فتبينت له عجائب كما قال، ومن ضمن تلك العجائب أن «الحور العين» في القرآن بإعادتها الى أصلها السرياني الصحيح يصبح معناها عناقيد العنب الأبيض! وفي حين تتحول بعض الدراسات الى طرائف وحكايات واصطناعات، يضعُ البعض الآخر منها على وجهه قناع الجدية والعلم من مثل القول ان القرآن من نتاج الأزمنة الكلاسيكية المتأخِّرة (من القرن الرابع الى السابع للميلاد)، ويعتبر هؤلاء أنفسهم موضوعيين، لأنهم بذلك يقولون إنّ القرآن ليس موروثاً عن اليهودية والمسيحية فقط، بل وفيه عوالم رومانية وزرادشتية ومن ديانات وتقاليد العرب الجنوبيين والشماليين قبل الإسلام.

وعندما نُجادل بعض الزملاء في جدية وجدوى هذه «الدراسات»، يذهبون الى أنهم يريدون الحصول على اعترافٍ بالقرآن يُضاهي الاعتراف بالتوراة والإنجيل. أما البعض الآخر فيقول إن الدارسين المسلمين القُدامى أو علماء علوم القرآن والتفسير سبق أن تعرضوا لموضوعات مشابهة، وسلكوا مسالك مشابهة من مثل الكتابة في «لغات القرآن» أو تفسير قصص الأنبياء بما هو واردٌ في التوراة وبعض الإنجيل، أو الاعتماد على اللغة أو أسباب النزول في فهم سياقات بعض الآيات أو السور.

والواقع أنه في سبيل الوصول، الى تأمل نقديٍ الى أنواع التأليف هذه، ينبغي ملاحظة بعض الأمور المبدئية.

أولها: أنه ليس من حقّ المسلمين الذهاب الى أنه لا ينبغي أن يَدرسَ القرآن أو الموروث الإسلامي غير المسلمين.

وثانيها أن الدراسات الغربية في تاريخنا وثقافتنا ونصوصنا ومنها الاستشراقي وغير الاستشراقي، قدمت وتقدم خدماتٍ جُلَّى في الفهم والتقدير والنشر والرؤى المتجددة.

وثالثها: أنّ العقود الثلاثة الأخيرة على الخصوص شهدت تبلور «استشراقٍ جديد» ينطلقُ من الحاضر الى الماضي، بمعنى أنه يبدأ من إيديولوجيا القاعدة أو السلفية الجهادية، ليدرس الماضي الجهادي الإسلامي، وليصل الى نتائج أصالته في ما يتعلق بطبيعة الإسلام. وأنه حتى الكلاسيكي، الذي يبدأ من القديم، يتعامل مع القرآن على أنه نتاجٌ وأمشاجٌ من ذلك القديم، شاركت في توليفاته أجيال عدة.

إن المخرج من ذلك كلِّه في قيام وتطور وازدهار دراسات إسلامية جدية غير وعظية أو تقريظية لدى العرب والمسلمين. ليس من أجل الردّ على الدراسات الأخرى، بل للمُضيِّ في تجديد الدراسات القرآنية، ودراسات السيرة النبوية، والحضارة الإسلامية. وليس معنى ذلك أن شيئاً من ذلك لم يحدث حتى الآن. بل ما أقصده أنه فيما عدا مجال نشر المخطوطات، ما قامت أعمالٌ دراسيةٌ كبرى تحولت الى مدارس في تخصصات الدراسات الإسلامية المختلفة.

وفضلاً عن ذلك، لا يزال هناك انفصالٌ كبيرٌ بين الدراسات المنهجية، والأخرى ذات الطابع التجريبي والتطبيقي.

ثم هناك عاملٌ ثالثٌ أسهم في القصور الذي نُعاني منه وهو صعود الأصوليات الإسلامية المختلفة الأشكال والأنواع. وقد فرضت جواً خانقاً جعل كثيرين من شبان علمائنا الأكفاء ينصرفون عن مجالات العمل النظري الدقيق والهادئ والمتفحص.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير