فحاصل هذا التأديب الرباني هو اجتناب الكلام السيئ جملة، والاقتصار على الحسن، وانتقاء واختيار الأحسن من بين ذلك الحسن.
و هذا يستلزم استعمال العقل والروية عند كلّ كلمة تقال ولو كلمة واحدة، فربّ كلمة واحدة أوقدت حربا، وأهلكت شعبا، أو شعوبا، و ربّ كلمة واحدة أنزلت أمنا، وأنقذت أمة أو أمما.
وقد بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم مكانة الكلمة الواحدة من الأثر في قوله: (الكلمة الطيبة صدقة .. ) البخاري، (واتقوا النار و لو بكلمة طيّبة) البخاري.
و هذا الأدب الإسلامي -وهو التروي عند القول، واجتناب السيئ، واختيار الأحسن-ضروري لسعادة العباد و هنائهم.
و ما كثرت الخلافات، وتشعبت الخصومات، وتنافرت المشارب، و تباعدت المذاهب، حتى صار المسلم عدوّ المسلم،والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المسلم أخو المسلم) البخاري ومسلم، إلا بتركهم هذا الأدب، وتركهم للتروّي عند القول،و التعمّد للسيئ بل للأسوء في بعض الأحيان.
(إن الشيطان ينزغ بينهم إنّ الشيطان كان للإنسان عدوّاً مبينا).
نزغ الشيطان: وسوسته ليهيج الشر والفساد.
و عداوته باعتقاده البغض، وسعيه في جلب الشر والضر.
وإبانته لعداوته بإعلانه لها كما علمنا القرآن.
وهو يلقي للإنسان كلمة الشر والسوء، و يهيج غضبه ليقوله، ويهيج السامع ليقول مثلها، وهكذا حتى يشتدّ المراء، ويقع الشر والفساد.
و لون آخر من نزغه، وهو أنه يحسن للمرء قول الكلمة التي يكون فيها احتمال سوء، و يلح عليه في قولها، ويبالغ في تحسين الوجه السالم منه، وفي تهوين أمر وجهها القبيح -حتى يقولها، فإذا قالها أعاد لسامعه بالنزغ يطمس عنه الوجه السالم منها، ويكبر له الوجه القبيح، ولا يزال به يثير نخوته، و يهيج غضبه، حتى يثور، فيقع الشر و الفساد بينه و بين صاحبه.
فحذر الله تعالى عباده من كيده حتى يحترسوا منه إذا تكلموا وإذا سمعوا، فيتباعدون عما فيه احتمال السوء فضلا عن صريحه، ويحملون الكلام على وجهه الحسن عند احتماله له، و يتجاوزون عن سيئه الصريح ما أمكن التجاوز.
(ربكم أعلم بكم إن يشأ يُعذبكم و ما أرسلناك عليهم وكيلا).
أقوى الأحوال مظنة لكلمة السوء هي حال المناظرة و المجادلة، وأقرب ما تكون إلى ذلك إذا كان الجدال في أمر الدين والعقيدة.
فما أكثر ما يضلل بعضٌ بعضا أو يفسقه أو يكفره فيكون ذلك سببا لزيادة شقة الخلاف اتساعا، وتمسك كلٍّ برأيه و نفوره من قول خصمه، دع ما يكون عن ذلك من البغض و الشر.
فذكّر الله تعالى عباده بأنه هو العالم ببواطن خلقه و سرائرهم و عواقب أمرهم، فيرحم من يشاء بحكمته وعدله، فلا يقطع لأحد أنه من أهل النار لجهل العاقبة، سواء كان من أهل الكفر،أو من أهل الفسق، أو من أهل الابتداع، كما لا يقطع لأحد بالجنة كذلك، إلا من جاء نصّ بهم.
فلا يقال للكافر عند دعوته أو مجادلته أنك من أهل النار،ولكن تذكر الأدلة على بطلان الكفر و سوء عاقبته.
و لا يقال للمبتدع: يا ضال، وإنما تبين البدعة و قبحها.
ولا يقال لمرتكب الكبيرة: يا فاسق، ولكن يبين قبح تلك الكبيرة و ضررها و عظم إثمها.
فتقبح الرذائل في نفسها، وتجتنب أشخاص مرتكبيها، إذْ رُبَّ شخص هو اليوم من أهل الكفر و الضلال تكون عاقبته إلى الخير والكمال،و ربّ شخص هو اليوم من أهل الإيمان ينقلب-والعياذ بالله-على عقبه في هاوية الوبال.
و خاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم -أنه لم يرسله وكيلا على الخلق، حفيظا عليهم، كفيلا بأعمالهم.
فما عليه إلا تبليغ الدعوة ونصرة الحق بالحق، و الهداية والدلالة إلى دين الله وصراطه المستقيم.
خاطبه بهذا ليؤكد لخلقه ما أمرهم به من قول التي هي أحسن للموافق و المخالف، فلا يحملنهم بغض الكفر و المعصية على السوء في القول لأهلهما، فإنما عليهم تبليغ الحق كما بلغه نبيهم صلى الله عليه و سلم، ولن يكون أحد أحرص منه على تبليغه، فحسبهم أن يكونوا على سنته وهديه.
أحيانا الله عليهما، وأماتنا عليهما، و حشرنا في زمرة أهلهما، آمين.)
انتهى كلامه رحمه الله، واسكننا وإياه الفردوس الأعلى.
ـ[حكيم بن منصور]ــــــــ[11 Dec 2009, 10:16 م]ـ
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، لم يذكر الشيخ مؤلفه لشهرته، ولكن لعل بعض قراء هذا الملتقى لا يعرفه، وهو الشيخ عبد الحميد بن باديس [1889 - 1940] رحمه الله رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
وكتابه أعيد طبعه قريبا باعتناء الشيخ أبي عبد الرحمن محمود الجزائري وطبعه في دار الرشيد_الجزائر في مجلدين، وهذا الكلام الذي نقله الشيخ في المجلد الأول ص286 - 293.
وبارك الله فيكم
ـ[عبدالرحمن الشهري]ــــــــ[11 Dec 2009, 10:21 م]ـ
وفقكم الله جميعاً لكل خير، وما أحوجنا إلى هذه الأخلاق الرفيعة والالتزام بها.
اللهم وفقنا لأحسن الأخلاق يا رب العالمين.