ولم تكن نظرية النظم جديدة اخترعها الجرجاني من غير مقدمات، وإنما لفت النظر إليها الجاحظ في كتابه نظم القرآن والواسطي في كتابه إعجاز القرآن في نظمه والباقلاني في كتابه إعجاز القرآن غير أن الجرجاني شرحها شرحا نحويا بيانيا وافيا مترابطا وصاغ منها نظرية متكاملة تقوم على أساس عدم الفصل بين اللفظ ومعناه وبين الشكل والمضمون وقرر إن البلاغة في النظم لا في الكلمة المفردة ولا في مجرد المعاني، دون تصوير الألفاظ لها. وبناء على ذلك فانه يعرّف النظم بانه: تعليق
الكلمة بعضها على بعض، وجعل بعضها بسبب من بعض، اي تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه واصوله وتعرف مناهجه فلا تزيغ عنها.
وكأني بالأستاذ النورسى درس نظرية النظم هذه دراسة متقنة ثم ظهر له ان المفسرين الذين سبقوه كالزمخشري والرازي وأبي السعود لم يحاولوا تطبيقها من حيث هي منظومة متكاملة تشمل ترتيب السور والآيات والألفاظ سورة بعد سورة وآية بعد آية ولفظا بعد لفظ، بتفاصيلها الكاملة فأراد أن يقتدي بهؤلاء المفسرين العظام فيؤلف تفسيراً يطبق فيه نظرية النظم تطبيقاً تفصيلياً شاملاً من حيث المباني والمعاني ومن حيث المعارف اللغوية والعقلية والذوقية، الكلية منها والجزئية، والتي اعتمد عليها في الكشف عن تفاصيل المنظومة القرآنية التي بها يظهر الإعجاز، وتتكشف دقائق خصائص الأسلوب القرآني التي خالفت خصائص التعبير العربي البليغ قبله، والتي حيرت البلغاء واخرست الفصحاء، ليحق عليهم التحدي المعجز إلى يوم القيامة.
ولم تتوجه جهود النورسى إلى بيان نظرية النظم، مقدمة لإثبات إعجاز القرآن البلاغي فحسب، بل اتجهت كذلك إلى التغلغل في معاني الآيات، حيث أراد بناءها تفصيلاً على المرتكزات العقلية للوصول إلى إظهار العقائد الإسلامية وارتباطها بحقائق الوجود.
ومن الواضح جدا لمن تأمل في الكتاب وترتيبه، انه كان يريد إن يؤلف تفسيراً كاملاً في هذا الاتجاه. ولو قدر للأستاذ - رحمه الله تعالى - أن ينهي عمله العظيم هذا كاملاً، إذن لقدّم تفسيراً بلاغياً وعقلياً كاملاً شاملاً، كان جديراً بان يأخذ منه عمره كله حيث كان من المحقق ان يحوي حينئذ عشرات المجلدات الضخام، لو انه مشى في ضوء منهجه هذا الذي نقرأه في هذا الكتاب.
ولكن الله سبحانه وتعالى قدّر له الأفضل من ذلك اذ وفقه لعمل اجلّ من ذلك وأعظم. عمل استطاع فيه ان يضع مسلمي بلده في ظروف عصره في مواجهة القرآن الكريم، دون إشغالهم بقضايا بلاغته وإعجازه اللغوي والتي لم تكن مشكلة عصره
من خلال التحقيق في جزئيات دقيقة لا يقوى على فهمها إلا الخواص جداً. وكان من المؤكد حينئذ أن يبقى الجمهور الأعظم من المسلمين في عصره بمعزل عن الاستفادة من مواهبه الفذة وحماسه الإيماني المنقطع النظير، وكذلك بمعزل عن الصراع الفكري الحضاري الرهيب غير المتكافئ مع الغزو الفكري المادي الجاحد، الذي بدأ يتسلل رويداً رويداً إلى الحياة الإسلامية حتى تصدر السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والفن والإعلام في كثير من بلاد الإسلام.
من اجل ذلك، وقف النورسى عند هذا المجلد من التفسير، ودفعته ظروف عصره وبلده الى أتون الصراع، ولكن في قالب جديد ممثلا بسعيد الجديد سمتُه الهدوء، والتدرج، والبناء، والنفوذ المحكم الى عقول المسلمين وقلوبهم دون صراخ عاطفي أو تهريج مدمر، أو صدامات فوقية، لم يكن الوضع الإسلامي يومئذ مهيئا لها ويقوى فيها على مجابهة الأعداء الأقوياء في الداخل والخارج.
لقد كان أسلوب رسائل النور في وضوحه الحاسم، وهدوئه العلمي الباهر، وبيانه الذوقي الرفيع، وحججه العقلية الدامغة هو البديل العصري الذكي لأسلوب إثبات إعجاز القرآن اللغوي والبياني والعقلي من خلال نظرية النظم، لان ما أثاره الأعداء لم يكن يتصل بالطعن في بلاغة القرآن أو مناقشة ما يتعلق بإعجازه أو بتناسب سوره وآية وكلماته. وإنما كان يركز على شن هجوم عام شامل على أصول الإيمان، وحكمة التشريعات، ومحاولة تفكيك النظام الأخلاقي الذي جاء به القرآن الكريم.
قد وعى الأستاذ النورسى التغييرات الهائلة التي أحدثها الصراع الجديد فتوجّه إليها بحقائق القرآن التي قدمها من خلال أصول المنطق العقلي الفطري وعلوم ومعارف عصره.
¥