والوفاق ولكن هذه القرارات جوبهت بالمماطلة في التطبيق. . . وتوالت المؤتمرات في ألكويت وفي السودان وفي اليمن. .. وكان الزبيري فيها جميعا داعية الوفاق والإصلاح.
لقد أدرك ـ رحمه الله ـ، بعد كل ما بذل من جهد أن الدعوة الفردية لا تجدي، وأنه لا بد من تنظيم يتبنى نظاما مقبولاً لدى الشعب اليمني بأسره يكون بديلا لكل هذه الدعوات التي أغرقته في بحار من الدماء، ولم يكن الزبيري ليعدل بالإسلام نظاما، فقد عاش حياته مؤمناً أن لا حياة للمسلمين إلا بالإسلام فسارع إلى إنشاء حزبه باسم " حزب الله "، فالتف حوله خيرة الرجال في اليمن، وانطلقت دعوته تجوب آفاق اليمن فتلقى المجيبين والملبين، وبدأ حملة واسعة قي أرجاء اليمن يخطب الجماهير داعيا إلى ما آمن به، وانتهى به المطاف إلى جبال " برط " وبينما كان يلقي خطابه انطلقت رصاصات غادرة تخترق قلبه المؤمن، فسقط على تراب اليمن التي وهبها حياته كلها، وفي هذا اليوم أول نيسان 1965 م صمت الصوت الذي هز اليمن، هز المخلصين فسارعوا إليه يلبون نداءه، وهز الحاقدين والمنتفعين والمستعمرين فسارعوا إلى إفراغ حقدهم برصاصات استقرت في القلب الكبير.
ومحمد الزبيري شاعر مطبوع، تعشق الأدب منذ يفاعته، وقال الشعر منذ صباه يمتاز شعره بالجزالة والحيوية وهو في نسجه أقرب ما يكون للقدامى لولا المعاني الحديثة التي يتناولها، وقف شعره تقريبا لقضيته الكبرى، حرية اليمن وسعادة شعبه، فقد هاله ما يعانيه اليمنيون من ظلم الحكام وفتك الأمراض وانتشار الفقر واستيلاء الجهل على الناس، فحاول محاربة كل هذه الأوبئة بالكلمة، بالأدب، بالشعر وكان مؤمناً إيمانا لا يتزعزع بأنه قادر بها أن يخلص شعبه ويسعده، وقد ظهر اعتداده بشعره في افصلاح في قصيدته التي معنا.
ولم يخل شعره من الالتفات إلى قضايا الإسلام والمسلمين، فالتفت إلى قضايا فلسطين وباكستان وكشمير ... ودافع عنها وبيّن وجه الحق فيها. .. . . ولم يستطع شاعر عربي قبل الزبيري أن يصور بشعره الظلم والظالمين. بمثل القوة التي صورهما بها، وأن يرسم للطغاة صورا تكشف حقيقتهم وتسخر من جبروتهم بمثل ما رسمها، وقارئ دواوينه لا ينفك يطالع هذه الصور المعبرة واللقطات الحية، لأنه شاعر عاش هذا الظلم في أبشع صوره، ولم يصفه وصف الذي سمع به، وليس راءٍ كمن سمع كما قالت العرب.
وأرغب في هذه التأملات التوقف مع قصيدته البديعة التي أعدُّها مِن أجملِ ما قيل في الأدب العربي في وصف لحظات الإشراق الفني والإبداع الشعري، والقصائد التي قيلت في وصف تلك اللحظات قليلة جداً في الأدب العربي بحسب ما اطلعتُ عليه.
ومن تلك الأبيات القليلة التي يصف فيها الشعراء لحظات محاولتهم لقول الشعر قصيدة جميلة للشاعر سويد بن كراع العكلي، حيث قال واصفاً موقفه حيال هذه الإلهامات التي تأتيه، وكيف تعتاص عليه هذه القوافي كأنها سربٌ مذعور من بقر الوحش النافرة لا تكاد تهدأ، وكيف يترقب هذه الأبيات في أوقات السَّحَر وكأنه يراقب صيداً يصيده، وكأنه يشير إلى أن أجمل أوقات قول الشعر هو وقت السَّحر، وقد ذكر ذلك عدد من الأدباء كابن رشيق في العمدة وغيره، وكيف أن هذه الأوابد من القوافي لا تكاد تتأتى له إلا بطول صبر ومخاتلة، وهو يعطي للشاعر درساً ألا يرضى بأدنى المعاني والقوافي كما يصنع كثير من الشعراء اليوم، فيكثرون من الشعر الركيك الذي لا يساوي ريالين، ويورث قارئَه حموضةً يجدها في نفسه حتى تزول بقراءة شيئ من الشعر الذي يستحق أن يقال له شعرُ. وذلك أنه يخاف هذا الشاعر المبدع أن تروى عنه أبيات ضعيفة (إذا خفتُ أن تُروى عليَّ رددُتها =وراءَ التَّراقي خشيةً أن تطلَعا) وكأنه يكتم سراً من الأسرار أن يبوح به، تقديراً لذائقة المستمع، وخوفاً من أن تنقل عنه سقطة، ولذلك هو يراجعها ويثقفها حولاً ثم يذيعها ..
أبيتُ بأبوابِ القوافى كأنَّما =أُصادى بها سِرْباً من الوحش نُزّعا
أُكالئُها حتى أعرّس بعدما =يكون سُحيراً أو بُعيدُ فأَهجعا
عواصيَ إلا ما جعلتُ وراءَها =عصا مربد تغشى نحوراً وأذرعا
أهبْتُ بغر الآبدات فراجعت =طريقاً أملّته القصائد مَهْيَعا
بعيدة شأو لا يكاد يردّها =لها طالب حتى يكلَّ ويظلعا
إذا خفتُ أن تُروى عليَّ رددُتها =وراءَ التَّراقي خشيةً أن تطلَعا
¥