وجشّمنى خوفُ ابنِ عفان ردَّها = فثقّفتُها حولاً جريداً ومربعا
وقد كان فى نفسى عليها زيادة =فلم أر إلا أن أطيع وأسمعا
ولمعرفة كبار الشعراء والنقاد لمكانة الشعر قالوا: (قول الشعر أشد من قضم الحجارة على من يعلمه). ولذلك فهو يراجعه وينقحه أحسن تنقيح، وقالوا أيضاً: (عمل الشعر على الحاذق به أشد من نقل الصخر، وإن الشعر كالبحر أهون ما يكون على الجاهل أهول ما يكون على العالم، وأتعب أصحابه قلباً من عرفه حق معرفته).
وقد نقلوا عن العلامة الراوية الأديب المفضل الضبي أنه سأله أحدهم: لِمَ لا تقول الشعر وأنت أعلم الناس به؟ فقال: عِلمي به هو الذي يمنعني من قوله، واستشهدَ بقول أحدهم:
وقد يقرض الشعرَ البكيُّ لسانه * وتُعيي القوافي المرءَ وهو لَبيبُ
ومثله الأصمعي عندما قيل له في ذلك، فقال: جيده يعافني، وأعاف رديئه، أو كلمة نحوها. وقال الفرزدق يوماً مصوراً صعوبة قول الشعر أحياناً: (أنا عند العرب أشعر الناس، ولربما كان نزع ضرس أسهل عليَّ من قول بيت شعر). فأين هؤلاء الشعراء الذين يكتبون كل يوم قصيدة أو قصيدتين لا تساوي الواحدة منها ريالاً؟
وقد أحسن محمد الزبيري تصوير هذه اللحظات التي يمر بها الشاعر المبدع أثناء إنشاءه للقصيدة، وأجاد في رسم تلك اللمحات الشاردة التي لم يتوقف لتصويرها إلا القليل النادر. فهو يصور هذه اللحظات بريح الجنان التي تهبُّ على النفس، ولك أن تتصور تلك الريح التي تهب من الجنة وما فيها من النعيم والانشراح، وكيف أنها تنال بهبوبها أعماق الروح، وكيف تأتي القوافي الشعرية مصاحبة لهذه الريح التي تسري في الأعماق ويشعر بها الشاعر كأنها نمل يدبُّ دبيباً، وكيف استطاع تصوير إقبال الأبيات والقوافي على الشاعر وإدبارها ومراوغتها، كما صنع امرؤ القيس في وصفه لفرسه بقوله:
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معاً * كجلمود صخرٍ حطَّهُ السيلُ من علِ
وكيف أن بعض الأبيات يلمح في ذهن الشاعر ثم يغيب على أمل اللقاء، وبعضها يأتي مذعناً فيقيده الشاعر ويستريح.
أُحِسُّ بريحٍ كريحِ الجِنانِ = تهبُّ بأعماقِ رُوحى هُبوبا
وأَشعرُ أنَّ القوافى تدبُّ = كالنَّملِ ملءَ دماغى دَبيبا
فهذا يزوغُ وذاك يروغُ = وذلك يُذعنُ لي مُستجيبا
وذاكَ يُفارقنى يائساً = وهذا يُواعدني أَن يَؤُوبا
ثم ذكر الغرض الذي يسعى من أجل تحقيقه بهذه القصائد والأبيات وهي رسالات سامية لصالح أمته ووطنه، وفيها تظهر عاطفته الوطنية القوية نحو أهله في اليمن، الذين خرج وتركهم، ورضي بالغربة بعيداً في باكستان من أجل السعي لإنقاذهم. فيقول:
ومنها أَصوغُ حياةَ الشُّعوبِ = وأُذكي على قاتليها الحُروبا
ومنها أُوزِّعُ للعالمين = طُهراً وأَنشرُ في الأرض طيبا
ومنها أَسُودُ، ومنها أَجُودُ = ومنها أُقارِعُ عنِّي الخُطوبا
ومنها أُصوِّرُ هذا الوُجودَ = وأكشفُ منهُ البديعَ العجيبا
ويظهر في هذه الأبيات اعتداد الشاعر بشعره، وأنه يؤثر في هذه الشعوب التي تسمعه وتتذوقه حقاً فيحييها، ويبعثها من سباتها الطويل بما فيه من الدعوة للثورة على الظلم والظالمين، وهو يوزع من شعره على العالمين طهراً وينشر طيباً، وهذا من أجمل ما يوصف به الشعرُ الهادف، ثم صور لنا كيف أن هذا الشعر ثروة حقيقة يسود بها ويجود منها على الناس، وأنه سلاح يدافع به عن نفسه وعن أمته المكلومة، ولا ينسى غاية مهمة من غايات الشاعر المسلم وهي تصوير هذا الوجود العجيب الذي خلقه الله فأحسن خلقه.
ثم ينتقل الزبيري ليصف لنا تلك المعاني التي تسكن تلك القوافي، وأنها ليست على درجة واحدة. فمنها المعاني الشادرة التي لا تعطي قيادها أي أحد، وأنها تأتي مثل البروق لمحاً سريعاً قل من يقدر على صيدها، ولكنها إذا وقعت أحيت الموات، وأروت الجديب من النفوس. وصورها حين تلمس مهجته لمساً رقيقاً فيتوثب القلب في الصدر توثباً فرحاً لعثوره على هذا المعنى الشارد واقتناصه.
وهناك نوع آخر من المعاني لم يسبقه - لروعته - إليه سابق، ولم يخطر على قلب أحد قبله كما يظنُّ، إذا خطرت على ذهنه اضطرب وفزع أن يفوته وسارع إلى تقييده.
¥