وهناك نوع آخر من الأبيات والمعاني الخالدة، إذا ولدت وخرجت للوجود فإنها تأبى الزوال وتستعصي على النسيان، وتبقى طيلة الحياة حية متجددة كأنها قيلت أمس، وما أكثر أمثال هذه الابيات لشعراء العربية الكبار التي خَلَّدتهم وخَلَّدُوها. وتأملوا كيف صور الزبيري شعوره - وهو الرجل المطارد من حكام اليمن، الغريب في باكستان بعيداً عن أهله ووطنه - عندما يقتنص مثل هذه الأبيات والمعاني الخالدة، وكيف أنه يحتقر شأن الموت بعدها، ولا يبالي به أن يأتي الآن أو متى شاء، وأنه يصنع بهذه الأبيات شعوباً بأسرها، ويلقح منها عقول المتذوقين، ويزهو مفاخراً بهذه الأبيات التي أنجبها تقوم له مقام الأولاد النجباء، وأنا أقول: بل أبقى ذكراً من الأولاد النجباء، فأين هم اليوم وأين هي أبياته؟
ومن المعاني ما يطوع لأول وهلة، ومنها النوافر المستعصية التي لا يقدر على التعبير عنها إلا نبي من الأنبياء.
ومنها الشَّواردُ مثل البروق = تحي الموات، وتروي الجديبا
إذا لمست مهجتي لمسة = توثب قلبي بصدري وثوبا
ومنها الأوابد لم تسكن العقول = ولم تأوي قط القلوبا
إذا نزلت خاطري فزعت =كوحش يواجه مصراً خصيبا
ومنها المواليد تأتي الوجود = فتأبى الزوال وتأبى المشيبا
أراها فأحقر شأن الردى = بعيداً أتى أم أتاني قريبا
أخلف منها لقاح النهى = وأصنع للأرض منها شعوبا
وأزهو بها راضياً معجباً = لأني ولدتُ الكثير النجيبا
ومنها المطايا إذا اقتدتها =فتحتُ السما وهتكتُ الغيوبا
ومنها النوافر لا يستطيع= إلا نبي عليها ركوبا
ثم يصور الشاعر لنا بعد هذه المعركة مع القوافي أنه يقيد الكثير منها، ولكن الأكثر يفلت من يده فلا يقدر عليه، وأنه يضع كلمات الرويِّ ويبني عليها الأبيات، ويشبه حروف الروي بالنطفة التي يتخلق منها الجنين، وهذا تشبيه رائع لا أعرف من سبق الزبيري إليه، ويصور كل بيت يكتبه بأنه لا يخرج إلا بعد معاناة وجراح ونزف دماء، وكأنه يتخيل ولادة المرأة لطفلها، ومعاناتها في ولادة هذا الطفل. فيقول:
وأكثرها مفلتُ من يدي = يغيب ولا يشتهي أن يغيبا
حروف الرويّ بها نطفة =ترعرع بيتا عريقا نسيبا
يضمخه الجرح من مهجتي = ويخرجه من دماءٍ خضيبا
ثم يصور الزبيري كيف أن القافية تحدد بحرها اللائق بها أحياناً دون شعور من الشاعر واختيار، وكيف تسكن تلك القوافي التي تشبه الدر الأصيل في ذلك البحر الشعري، وكيف تتحمل تلك القوافي معاني ثقيلة ثقل الجبال لما تحمله من سمو ونقاء ومسئولية، وكيف أن المعاني تطلب القوافي المناسبة لها، وتذوب في طيها، وهذه من النظريات الشعرية التي أكثر الأدباء من الحديث عنها في كتب النقد الأدبي.
وقافية تبتغي في البحورِ = دُراً أصيلاً وصيدا جليبا
ووزن تحمَّل ثقلَ الجبال = يُقسّم في طيه أن تذوبا
ومعنىً يسير إلى لفظه = ولفظٌ لمعناه يجري دؤوبا
وكلٌّ له موضع مُعلَم = يؤول إليه رشيداً لبيبا
يسارع كل إلى شكله = ويطلب كلُّ ضريبٍ ضريبا
ثم يصور عقله في هذه اللحظات الغريبة التي تتصارع فيها المعاني والقوافي والبحور والمشاعر في نفسه، وكيف يبدو وكأن به مساً من الجن لمن لا يعرفه، فهو يصمت أحياناً، ويتكلم أحياناً بل ويصيح أحياناً، وأنه لولا معرفته بمثل هذه الأعراض التي تعرض للشاعر المبدع لظن الناظر إليه أن مريض، فيقول:
كأن بعقلي لها جنةً = يلاقي بها كلُّ صبٍّ حبيبا
نواميسُ يسعى إليها الكلامُ = ويبغي لهُ من خُلودٍ نصيبا
أسلّمُ نفسى لها ذاهلا = حريصاً عليها بشوشاً طروبا
وأصمتُ مستمعاً تارةً = وأصرخُ حينا عبوساً غضوبا
ولولا اهتدائى لسرِّ النُّبوغِ = وأعراضهِ لطلبتُ الطبيبا
وما كان عقلي أجيراً لها = ولا كنتُ منها لكسب طلوبا
ولكنها قدر غالب = قضى أن أكون فكنت الأديبا
كذاك طبعت، ومن يستطيع = من طبعه موئلا أو هروبا
ثم يختم بخاتمة رائعة معبرة، يبين فيها حبه الشديد للشعر وتعلقه به، وأنه يحيا به بين الناس في زمان القهر والظلم والطرد من الوطن، وأنه يملك بين جنبيه روحاً متوثبة طفوليَّة الآمال، تمنعه أن يشيب، ولكنَّه شعر أن الشيب على مفرقه قد فضحه أمام الناس. فاستدرك قائلاً: لا تصدق هذا المشيب الذي بمفرقي فإنه شيب كذوب كالناس الذين أصبح الكذب شعاراً لهم. وما أجمل هذه الجملة الاعتراضية في البيت (فقد صار - كالناس - لوناً كذوباً)، ثم يختم بأبياته المشهورة في غناه بشعره، وأنه أغنى من كل من يظنه فقيراً طريداً سليباً، فيقول:
أحب القريض وأحيا به = مع الهول طفلاً ضحوكاً لعوبا
وروحُ الطفولةِ في نزعتي = وفني ستمنعني أن أشيبا
وأما البياضُ على مفرقي = فقد صارَ -كالناسِ- لوناً كذوباً
خذوا كل دنياكموا واتركوا = فؤادي حُرَّاً وحيداً غريبا
فإني أضخمكم دولةً = وإن خلتموني طريداً سليبا
وقد استطاع الزبيري حقاً أن يصور تلك اللحظات التي يمر بها الشاعر عندما يكتب قصيدة من القصائد، والشعراء يتفاوتون في هذه المشاعر والخطوات بحسب إبداعهم وقدراتهم الشعرية، وبحسب المناسبة التي يكتبون فيها القصيدة، والمعاني التي يريدون التعبير عنها، والزبيري شاعر اليمن كان يتنزى ألماً وحرقة على وطنه ومصيرهم، ولذلك كان شعره مرآة تعكس كل هذه المشاعر الوطنية الصادقة.
رحم الله محمد محمود الزبيري، وأحسن إليه فقد أحسن إلينا بهذه القصيدة الرائعة نترنم بها في خلواتنا كما كتبها في خلوته في ذلك الكوخ البعيد في باكستان.
وديوان الزبيري مليئ بما يصلح للوقوف معه، ولكن لعل ذلك في وقفة قادمة.
الثلاثاء 2/ 3 / 1431هـ
ـــــ الحواشي ــــــــ:
(1) استفدت في ترجمته من بعض المواقع الإلكترونية بتصرف.
¥