تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بين يديَّ مقالةُ سوء لكاتب زعم أنه عضو في نادٍ أدبي بإحدى المناطق الكبرى، لم أعقلْ منها إلا حروفاً عربيّة صفّها في صحيفة وقدّمها للنشر، فإذا هي غاية في الانحطاط في أسلوبها ومضمونها وضعف تراكيبها وكثرة اللحن فيها، ولست أدري هل قرأ هذا الكاتب قواعد النحو؟ أو ألمَّ بشيء من علوم البيان؟

وليته إذ كتب ما كتب أخفى سوءته فلم يبح بعضويته في ذلك النادي الأدبي، وعضويّة الأندية الأدبيّة في هذا الزمان العجيب مهنة لا يضرُّ الجهل فيها ولا ينفعُ العلم معها، إذ صارت ملاذاً لكل لاهث وراء الظهور والشهرة إلا من رحم ربك وقليل ما هم.

ولا يهولنك ضخامة هذا الاسم "الأندية الأدبية" ولا وقع رنينه أو سحر بريقه! فهم شرذمة قليلون، وقاعات مهجورة، وبئر معطلة! والمعيدي - في السماع به دون رؤيته - خيرٌ من الأندية الأدبية فلا سماع ولا رؤية، فلا سيرتها بالحسنة ولا من عرفها حق المعرفة أثنى عليها، وأعضاؤها كضفدع الطين الإسبانيِّ المهدد بالانقراض ينقصون ولا يزيدون، وقد حق عليهم المثل الشعبي العامي: قال صفّوا صفين قالوا حنا اثنين!

أولم يأتِ هؤلاء أنباء ما في الصحف الأدبية الأولى؟

ألم يأن لأعضاء هذه الأندية الأدبية أن يقبلوا على التأدب والتثقف والاطلاع قبل الإنتاج والكتابة؟

أولا يرون أنهم يكتبون ما يسيء الكرام الكاتبين وتسوّد به الصحائف يوم الدّين؟

لقد أنعم الله علي – وما أنا بأديبٍ أو لغوي - إذ هيّأ لي أن أنظر في جميع ما كتبه الأديب المُلهم أحمد بن حسن الزيات، وما خطّه يراع الشيخ المتفنّن علي الطنطاوي، وما أفاء الله به على عبده العلامة الأديب مصطفى صادق الرافعي ففتح له آفاقاً ممتدة لصنعة النثر ذات العمق في المعنى والتحليل الفكري بعد أن تضاءلت هيبة النثر الفنّي بإبقائه رهيناً لقوة اللفظ وجزالته كما كان الحال عليه في منثور شيخ الأدب وفاتح مغاليقه مصطفى المنفلوطي، ثم أتممت النعمة بأن غمرت نفسي في معين الأدباء الكبار كمحمود بن محمد شاكر، ومحمود بن محمد الطناحي، والشهيد السعيد سيّد قطب، ومن قبلهم إبراهيم المازني، وزكي مبارك سقى الله أجداثهم جميعاً بغوادي الرحمة.

فأتيت على جميع كتبهم ومقالاتهم بالنظر والقراءة والتأمل فأحدث ذلك في الروح أُنساً عظيماً، وغشيني من الطرب النفسي ما غشيني، ولم أقنع بذلك فولّيتُ همّتي شطر آخرين من أمثال عباس محمود العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم فقرأت طرفاً صالحاً من مقالاتهم وكتبهم ورواياتهم، وتضلّعت من أساليبهم محاكياً لها أحايين كثيرة ومنفرداً عنها حيناً.

ولم أكن حبيس عصري وقعيد دهري، فجررت أذيالي وعدت القهقرى إلى زمان كان فيه الأدب غض الإهاب، ناعم العود، رقيق الحاشية، مهيب الجاه، وأقبلت إقبال الظامئ ينهل من منهل عذب مورود فقرأت للجاحظ ما وجدت من كتبه، ونظرت في أدب أديب أهل السنة وفخرهم الإمام ابن قتيبة، وبلغتُ غاية المتعة واللذة بالقراءة لمن لم يكتب بالعربية في عصور التأليف أحد مثله ألا وهو أبو حيان التوحيدي، فما سكنني من كلّ أولئك أحد مثل أحمد بن حسن الزيات، ولا تهمّمّت نثراً أدبيّاً لأحد كنثر أبي حيان التوحيدي.

لقد حوت كتابات هذه الثلة الميمونة من طليعة الأدب وساقته سمات الفصاحة البالغة والجزالة الواضحة، فإن قرأت لهم وعكفت على أدبهم فإنك مستحضر لا محالة ذلك الوصف البالغ في الدقة للأدب والطرب به والأنس له والذي عبّر عنه الإمام الشافعي وقد قيل له: كيف شهوتك للأدب؟ فقال: أسمع بالحرف منه مما لم أسمعه فتود أعضائي أنَّ لها أسماعاً تتنعّم به مثل ما تنعّمت الأذنان.

وما قرأتُه لم أكن فيه بدعاً من جيلي وأترابي من المتيّمين بالأدب والعاكفين عليه، بل قرؤوا كما قرأت، ونظروا كما نظرت، واستمتعوا بما استمتعت به، فمنهم من فتح الله عليه في الكتابة حتى صار علماً يهتدي الناس بأدبه ويقتدون طريقته، ومنهم من وقفت به عزيمته وانصرفت نفسه إلى أنحاء شتى من المعارف والعلوم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير