وأيّاً ما كان حالهم، فإن كل أولئك بقوا أوفياء للأدب يخضعون لأساليب أئمته ويستكينون لهم وبهم يهتدون، فلا تجد أحداً منهم يأتي بالثناء على اللغة الهزيلة والتراكيب السقيمة التي عمّت الكتابة هذه الأيام وغشيت المحافل وصارت علماً على فساد لغة التأليف الأدبي إلا قليلاً، ومن آيات وفائهم الصادق أنهم - كما عهدتهم – ما انفكوا يقرؤون لأولئك الأدباء بتشوف بالغ ونشوة عظيمة وسكينة غامرة.
فهل بقي الأدب على عزته ومنعته وصيانته؟
هانحن ذا نلقف ما تأفك المطابع صبحاً ومساءً بأنه أدب من تلك الأسفار الوضيعة التي نتجرّعها ولا نكاد نسيغها، فينشرون لكل من هب ودب ودرج باسم القصة والرواية والنثر والنقد وشيء من الشعر ما تعافه سليقة العربي القح، وما ينبو في أسلوبه وطريقته نبوّاً يبلغ الغاية في البعد عن سنن أئمة هذا الشأن وواضعي قواعده.
ثم إنَّ كل هذا الهراء يروّج له في تلك الأندية الأدبية، وتُستفتح بذكره أعمدة الكتاب من الصحفيين، وتلهج بالثناء عليه والدعاء لقراءته ألسنة الإعلاميين، ولم يبق كاسد أو وضيع أو منحرف إلا وباءَ بإثم مسوّدات سمّاها – ظلماً وزوراً - "رواية" هتك بها ستره ودل الناس على عورته وكشف خبيئة حاله وجاهر فيها بمعصيته، فأفسد بها من سمو الذائقة ونبل الأخلاق ما شاء أن يفسد، فظن الناس أن غاية الأدب هي هذه، وهم يرون من السادات والكُبراء وبعضاً من الدكاترة ورؤساء المنتديات الأدبية من يضلّونهم السبيل ويحشدون طاقاتهم للتعريف بالمتردية والنطيحة من واضعي هذه المسوّدات المزوّرة.
فانظروا كيف تحوّل الأدب الوقور المهيب إلى "قلة أدب"!
"قلّة أدب" في ركاكة أسلوبه وسُقم تراكيبه وبعده عن طرائق أهله الأصيلة وقرائح مبدعيه.
و"قلة أدب" في فشوِّ الفضيحة فيه، وامتلائه قبحاً ونتناً، وخروجه عن حدِّ الفضيلة وروح العفّة.
فأين في جيل اليوم من يأتي على "حيوان" الجاحظ "وبيانه وتبيّنه" قراءة وأُنساً؟ وأين من يلتهم قرائين البلاغة من أسفار أبي حيان التوحيدي؟ وأين أولئك الذين يعبّون من مورد "الكامل" للمبرّد؟ أو "رسالة الغفران" للمعرّي؟ أو معجم ياقوت للأدباء؟ أو "أساس البلاغة" للزمخشري؟ أو "العقد الفريد" لابن عبدربه؟ وأين منهم من يكون حلس "الأغاني" للأصفهاني؟ وأين أولئك المتسامرون على "مقامات" بديع الزمان وصنوه الحريري؟
قال أبو حيّان التوحيدي في الليلة السابعة عشرة من مجالس كتابه النادر "الإمتاع والمؤانسة" ناعياً على أهل زمانه من أهل الأدب والعلم والفضل حالهم: "فلما عدتُ إلى المجلس قال: ما تحفظ في تِفعال وتَفعال، فقد اشتبها؟ وفزعتُ إلى ابن عبيد الكاتب فلم يكن عنده مقنع، وألقيت على مسكويه فلم يكن له فيها مطلع، وهذا دليل على دثور الأدب وبوار العلم والإعراض عن الكدح في طلبه".
وقال السيوطي في كتابه "المزهر في علوم اللغة": "ولما شرعت في إملاء الحديث سنة 872 وجددته بعد انقطاعه عشرين سنة من سنة مات الحافظ أبو الفضل ابن حجر، أردت أن أجدد إملاء اللغة وأحييه بعد دثوره، فأمليت مجلساً واحداً فلم أجد له حملة ولا من يرغب فيه، فتركته".
فهذا حال أولئك في زمان كان الأدب فيه قريحة تسكن كِرام الرجال، وفخراً ينشده سادة الناس، وزينة يتحلّى بها كبراء الخلق، فكيف بحال أهل هذا الوقت ممن أصبح قصارى اطلاعهم وقراءتهم أن ينظروا في الصحف والمجلات والمنتديات الإلكترونيّة بما تحويه من اللغة المشوّهة والأساليب المستقبحة؟
ولا يستخفّنك الذين لا يوقنون من أولئك القائلين: الأدب مجرّد متعة لفظية، وزخرف من القول، وليس وراءه فكر أو تحريك للعقل، وأن الدوران في فلكه أدى إلى تقهقر العرب وتخلّفهم!
فما يرغب عن هذا الأدب إلا من سفِه نفسه وبغى واعتدى وظلم واجتوى تراثاً عظيماً وأزرى به! وحسبُك في الرد عليهم ما نُقل عن أبي القاسم السيرافيِّ أنه حضر مجلس أبي الفضل ابن العميد فقصر رجل بالجاحظ وحطَّ عليه وحلم ابن العميد عنه، فلما خرج قال له السيرافيِّ: سكتّ أيها الأستاذ عن هذا الجاهل في قوله الذي قال مع عادتك بالرد على أمثاله! فقال ابن العميد: لم أجد في مقابلته أبلغ من تركه على جهله، ولو وافقته وبينت له لنظرَ في كتبه وصار إنساناً، يا أبا القاسم كتب الجاحظ تعلم العقل أولاً والأدب ثانياً.
والقصّة منثورة في كتب التراجم والطبقات.
¥