أما والله إنه لحق واجب على كل غيور محب لأدب أمّته أن يُحيى طريقة أولئك الأدباء العظام، ويقتفي أثر أساليبهم، فلا يشذ عنهم أو ينتحي جانباً، بل يعيدها جذعة كما كانت، فهذه مفاخرنا، وما بقي كتاب الله خالداً خلود الدهر إلا بما فيه من إعجاز الفصاحة وإحكام البيان، ولئن طرب شداة الغرب بأعلامها من العازفين والنحّاتين والرسّامين والقاصّين وهاموا بذكرهم وسكروا بحبهم، فإنا نرفع رؤوسنا ونُعلي هاماتنا – فخراً وشموخاً - بكل كاتب أقام صلب اللغة ونصب راية الأدب مقتفياً أثر سلفه العظام من أدباء العربيّة في مر العصور.
قال الطناحي: "لقد كنا في طفولتنا وصدر شبابنا نحفظ الشعر الجاهلي ومتون العلم في الصباح، ونلعب الكرة الشراب عند العصر، فجرتْ اللغة في عروقنا واختلطت بلحمنا وعظمنا .. وهكذا الشأن عند سائر الأمم فتلاميذ المدارس الإنجليزية يقرؤون "شكسبير" ويعرفونه جيّداً، وتلاميذ المدارس الألمانيّة يقرؤون "جوته" ويعرفونه جيّداً، مع الاحترام الزائد والتوقير الشديد".
وكم من حسنة عظيمة لأولئك العلماء الذين كتبوا في العلوم المتعددة بأساليب متقنة ولغة سامية، فجمع الله لهم فخر التأصيل في العلم وشرف الكتابة بالأسلوب البديع، فانظر – بخضوع بالغ وانكسار تام - كيف كان يكتب الإمام الشافعي، وإمام المفسرين وشيخ المؤرخين الطبري، وفخر العربيّة وأحد عجائب الزمان نحواً وصرفاً وتحليلاً ابن جنّي في "الخصائص"، وحجة الإسلام الغزالي في "إحياء علوم الدين"، وعلَم الأعلام ابن القيّم في عامّة ما كتبه، وكيف أبدع ابن خلدون في مقدمته، ثم اختم ذلك كلّه بالوقوف على أسلوب آسر وبلاغة مبهرة تأخذ بمجامع القلوب وتزلزل الجوانح في الفصاحة والبيان للقاضي الجرجاني في كتابه النقدي "الوساطة بين المتنبي وخصومه".
ثم انظر في أهل هذا العصر لترى أنهم سلكوا سَنن أولئك حذوَ القذّة بالقذّة وامتطوا صهوة البيان في تصانيف شتّى، ونحن أشد بهم أنساً وأقرب إليهم عهداً، فاقرأ كيف كان يكتب الشيخ العلامة البشير الإبراهيمي، وفخر الزمان ونادرة العصر الطاهر ابن عاشور، والإمام المجاهد شيخ الإسلام مصطفى صبري، وكيف كانت بلاغة طه حسين – على عمى بصره وبصيرته - في تآليفه المتعددة وعلى رأسها "الأيام"، واجعل للشيخ الأديب محمود بن محمد شاكر ولحواريّه والقائم بحقّه وسميّه محمود بن محمد الطناحي من قراءتك ونظرك نصيباً مفروضاً، وعرّج بالنظر في أدب المتفرّد بأسلوبه والمتفنّن في طريقته مارون عبّود، ولا تنس أن تنيخ ركابك في ساحة الآية العجيبة في علمه وأسلوبه، العجمي في نسبه، العربي في لسانه وفصاحته وبيانه عبدالعزيز الميمني، ومسك الختام أن تقرأ لريحانة القلب وقرّة العين الشيخ العلامة بكر بن عبدالله أبو زيد ذي الأسلوب الفريد والنظام العجيب، لتعلم كيف كان يكتب هؤلاء العلمَ ومباحثه بأساليب الفصحاء وطرائق الأدباء.
ـ[فهد الجريوي]ــــــــ[24 May 2010, 02:07 م]ـ
الشيخ العزيز الحبيب عبدالرحمن: أبعد أن طارت بنا هزة الشوق كل مطير، وأصارتنا غرة الفرح بين روضة غناء وواد مطير تتوقف! بعد أن سقتم هذه الألفاظ التي تأنق الخاطر في تذهيبها، والمعان التي عني الطبع بتهذيبها، وكأن القائل يعنيها يوم قال:
وما هي إلا روضة ونسيمها = يبرد من حر اشتياقي سمائما
وأدواحها أسطارها وحروفها =ترجع فيها بالثناء الحمائما
ينم بسر الحمد وشي طروسها=فنحمد من واشي اليراع النمائما
وكانت هذه الزاوية من قصرها كما قال كشاجم:
لم أستتم عناقَه لقدومهِ
حتى ابتدأت عناقه لوداعه
فأتحفنا حفظك الله بألفاظ تروق مجتليها، وتشوق مجتنيها، فعهدنا بك أمتع الله بك، عهد من إذا حاك الكلام طرز، وإذا غشي ميدان البيان برز، واجعلنا حفظك الله نردد ما قاله الصنعاني رحمه الله:
ووافى نظام يشهد الذوق أنه =هو الراح إلا أنه لن يحرما
معانيه خمر والحروف كؤوسه=وترشفه الأسماع إذ أعجز الفما
إذا رمت تشبيهاً له فعبارتي =تذوب حياءً أن تقول كأنما
أبن لي أدرُّ البحر نظماً جعلته=بلى إنما تلك الدراري من السما
وصلىي على المختار والآل كلما=الحمام بأغصان الرياض ترنما
ـ[الجكني]ــــــــ[24 May 2010, 03:55 م]ـ
¥