وإنّما حدث في مطلع القرن السابع الهجري على يَدِ الملك المظفر أبي سعيد كوكبري، وقد صنّف له أبو الخطاب بن دحية (ت 633 هـ) مجلّدًا في ذلك سَنَة أربعة وستمائة، سمّاه «التنوير في مولد البشير النذير»، قرأه عليه بنفسه وختمه بقصيدة طويلة، فأجازه بألف دينار. [انظر «البداية والنهاية»: (3/ 136)، «ونفح الطيب»: (2/ 575)].
ومن الغرائب ـ والغرائب جَمَّةٌ ـ أنّ الحافظ ابنَ كثير: حكى عن بعض منْ حَضَرَ سماط المظفر في بعض الموالد، كان يمدّ في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوى، وكان يعمل للصوفية سَمَاعًا من الظهر إلى الفجر يَرْقُصُ بنفسه معهم.
وهذا مظهر من مظاهر الضعْفِ والانحراف في عصر الانحطاط بعد سقوط الخلافة الراشدة وانقسام الدولة الإسلامية إلى دويلات مُتَنَافِرَة.
وأوّلُ من أَحْدَثَه بالمغرب بَنُو العزفي، أصحاب سبتة، وفي سنة 691 هـ من شهر ربيع الأول أمر السلطان يوسف بن يعقوب بن عبد الحقّ بعمل المولد النبوي وتعظيمه والاحتفال له، وصَيَّرَهُ عيدا من الأعياد في جميع بلاده. [انظر «الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى» (ص: 90) لأبي العباس أحمد بن خالد الناصري].
وهذا يدلّك على أنّ الملوك الذين لا صِلَتَ لَهُمْ بالعلمِ الصحيحِ همُ الذينَ سَنُّوا للناس هذه السُّنَّة السيئة، واتَّبَعهم في ذلك طوائف من العلماء والصوفية. ولله درّ القائل:
وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينُ إلاَّ الملُوكُ وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا
رابعا: أنّ العلماء اتفقوا على أنّ «العبادات مَبْنَاهَا على التوقيف والإتباع لا على الهوى والابتداع».
فالعبادات التي أوجبها الله جلّ وعلا أو جعلها وسيلة إليه يرجى عليها الثواب، لا يثبت الأمر بها إلاّ بالشرع، فلا يشرع منها إلاّ ما شرعه الله في كتابه أو الرسول صلى الله عليه وسلم في سُنَّتِهِ، ولهذا قال تعالى: ?أَمْ لهمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لهمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ? [الشورى: 21].
فكلّ من شرع عبادة يتقرّب بها إلى الله تعالى، وندب إليها بقوله أو عقله أو ذوقه من غير أن يشرعه الله سبحانه، فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، ومن اتّبعه في ذلك فقد اتّخذه شريكا لله.
ولذا كان الإسلام مبنيا على أصلين عظيمين أن لا نعبد إلاّ الله وأن نعبده بما شرع لا نعبده بعبادة مبتدعة.
وهذان الأصلان هما رأسا الإسلام وجمّاعه، وهما تحقيق الشهادتين شهادة أن لا إله إلا لله وشهادة أنّ محمدا رسول الله.
فالشهادة لله بأنّه لا إله إلاّ هو، تتضمّن إخلاص العبادة له.
والشهادة بأنّ محمدا رسول الله، تتضمّن إخلاص المتابعة له (1).
خامسا: أنّ العلماء اختلفوا في يوم ولادته صلى الله عليه وسلم على سبعة أقوال ذكرها الحافظ ابن رجب في «لطائف المعارف» (ص: 103)، وهذا يدلّ على أنّ سَلَفَ الأمة لم يكونوا يحتفلون بالمولد، وإلاّ لضبطوا لنا يوم ولادته، كما ضبطوا بعضَ الوقائع العظيمة مع عدم احتفالهم بها.
ومن عجائب القَدَرِ أنّ اليوم الذي اشْتهر أنّه وُلِدَ فيه وهو الثاني من ربيع الأوّل، هو بِعَيْنِهِ اليوم الذي اشْتهرَ أنَّه توفي فيه، فليس الفَرَحُ به بأَوْلَى من الحزْنِ فيه، بل قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أُصِيبَ أَحَدُكُمْ بِمُصِيبَةٍ فَلْيَذْكُرْ مُصِيبَتَهُ بِي فَإِنَّهَا أَعْظَمُ المَصَائِبِ» [انظر «الصحيحة»، رقم (1106)].
سادسا: أنّ الأعيادَ شريعةٌ من الشرائع يجب فيها الإتباع لا الابتداع.
فالأعياد الشرعية والمواسم الدينية هي من العبادات التي يُقصد بها التقرّب إلى الله تعالى وتعظيمه، وتعظيم دينه ونبيّه صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: ?وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ? [الحج: 32]. فلا يشرع منها إلاّ ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
¥