تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فإذا كان الأمر هكذا فهو أعجز من أن يهب الصفات الكاملة والزينة والجمال لمخلوقات مثله أو لمخلوقات أكبر منه.

ولكن الماديين ينظرون إلى نفس هذه الأمور نظرة مختلفة ومن زاوية مختلفة، ومع أنهم لا ينكرون النظام والدقة والتناغم في هذا الكون، إلا أنهم يريدون منا أن نؤمن أنه نشأ من حالة فوضى وتشوش نتيجة مصادفة عشوائية، وهم يطلبون منا أيضاً أن نؤمن أن الكون قائم على التفاعلات الميكانيكية للأسباب. ولكن هذه الأسباب ... التي لا يعرف الماديون ماهيتها بشكل قاطع ... هي نفسها مخلوقة وعاجزة وجاهلة وزائلة ودون هدف ...

والماديون يرون أن هذه الأسباب هي التي أنتجت –وذلك من خلال القوانين التي ظهرت من العدم!! – كل مظاهر الدقة والتناغم والتوازن والنظام والجمال التي نراها من حوالينا.

وكما قام إبراهيم عليه السلام بتحطيم الأوثان والأصنام في المعبد، قام بديع الزمان بتحطيم هذه الأساطير والخرافات،

فهو لا يدأب يذكر أنه ما دامت جميع الأشياء يرتبط بعضها مع البعض الآخر، فإن هذا يعني أن من أوجد البذرة هو الذي أوجد الزهرة وأنشأها، وبما أن أحدهما يرتبط بالآخر بعلاقات متداخلة فإن من أوجد الزهرة لا بد أنه هو الذي أوجد الشجرة وأنشأها، ونظرا لوجود علاقات متداخلة فإن من أوجد الشجرة لا بد أنه هو الذي أوجد الغابة وأنشأها ... وهكذا إذن فإن القادر على خلق ذرة واحدة يجب أن يكون قادرا على خلق الكون بأجمعه، وهذا ما تعجز الأسباب عن القيام به ولا تطاله أبدا، ذلك لأن الأسباب عمياء وعاجزة وزائلة ومحتاجة وليس لها أي علم بحاجاتنا.

ويوما بعد يوم بدأ العديد من العلماء يدركون أن مساندة النظريات الميكانيكية القديمة لم تعد ممكنة، ذلك لأنه أمام هذا الجمال والروعة وهذا النظام والتناغم والاتساق، وأمام هذا التناظر ووجود الغاية والهدف فإن محاولة تفسير الخلق استنادا إلى فكرة المصادفة والسببية أصبحت –وبتسارع كبير– شيئا لا يمكن الدفاع عنه إلى درجة أن نوبات الهيستريا بدأت تنتاب بعض العلماء الذين بلغ بهم الحنق درجة كبيرة وهم يشاهدون تهاوي آلهتهم القديمة وتحطمها جذاذا.

يقول أحد علماء علم الحياة (البيولوجيا) –والبيولوجيا لا يزال من أكثر فروع العلم ميكانيكية– المشهورين:

– أليس من الغريب أنني كلما اكتشفت جمالا أكثر، وتناسقا أفضل في الكون ازددت قناعة بعبثيته؟!

لا يدرك هذا الرجل المسكين أنه إن كان كل شيء عبثا ودون معنى فإنه وحياته أيضا دون أي معنى.

ويؤكد أيضا عالم آخر مشهور – هل لي أن أقول عنه إنه سيئ السمعة؟ – وهو بيولوجي أيضا، بأن وجود الكائنات ولا سيما ظاهرة الشكل Phenomenon of Form لا يمكن عزوها أو إرجاعها إلى الحركة العشوائية للأسباب العاجزة والعمياء والتي لا تملك شيئا من العلم ومن المعرفة. وهو ليس العالم الوحيد الذي يفكر على هذا النحو، ولكنه أول عالم مشهور في العالم الغربي يصرح برأيه هذا بكل صراحة. والذي يلفت النظر أكثر من تصريحه هذا هو قوله أن الجو العلمي في العالم الغربي يشبه نمط إدارة الحكم في عهد بريجينيف.

إن النظرية الميكانيكية اليوم قوية ومسيطرة ومتنفذة في التفكير الغربي –ولا سيما في العلوم البيولوجية– إلى درجة أن جميع العلماء يجب أن ينحنوا أمامها ويستسلموا لها إن كانوا راغبين في الاحتفاظ بوظائفهم. وهم مضطرون إلى إعلان ولائهم وإخلاصهم لهذه النظرية أمام الملأ، بينما يهمسون بآرائهم الحقيقية في مجالسهم الخاصة، أي يضطرون إلى إدامة هذه التمثيلية وهذه اللعبة.

عندما طبع كتابه الذي هاجم فيه “السببية” وصفت مجلة “نيو ساينتست The New Scientist“ هذا الكتاب بأنه “كتاب يستحق الحرق”، ومنذ ذلك الحين عُدّ هذا الكاتب مؤلفا منبوذا، أي عد “سلمان رشدي” آخر، ولكن في عالم العلم في الغرب.

إن وجود مثل هذه الآراء المختلفة حول سريان أو عدم سريان نظرية الأسباب، والقول بصحة هذه النظرية يشير بوضوح إلى أن عزو قوة الخلق إلى الطبيعة، أو إلى القوانين الطبيعية ليس نتيجة حتمية وضرورية للبحث العلمي الموضوعي، بل هو نظرة شخصية لا أكثر ولا أقل.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير